مقال الناقد محيي الدين إبراهيم عن عرض "كارمن "

"كارمن" على مسرح الطليعة: حبٌّ لا يُروَّض ودمٌ لا يجف:
في حياة كل إنسان لحظة تنقلب فيها الأشياء، حيث يتحول العشق إلى لعنة، ويصبح الجمال نفسه، لعنةً قاتلة، أما الحرية فتصبح سكينًا في يد العاشق، إن الحب الحقيقي لا يشبه الحكايات الرومانسية، بل أقرب إلى حريقٍ لا يترك شيئًا على حاله، ومن هذا المنظور، جاء عرض "كارمن" على خشبة مسرح الطليعة ليقدم مأساة العشق والدم والانهيار في صورة مشبعة بالشغف والتمرد.
أسطورة تتجدد:
إنها أحتفالية مسرح الطليعة بمرور ١٥٠ سنة على وفاة بيزية عام ١٨٧٥م مؤلف أوبرا كارمن، و"كارمن"، سواء أوبرا أو أعمال مسرحية جميعها مأخوذه عن رواية بروسبير ميريميه، ولكن خلدتها أوبرا بيزيه، انتجها المخرج الفنان عادل حسان وهو مدير مسرح الطليعة قبل أن ينتقل لرئاسة المركز القومي للمسرح، لتكون جوهرة تدلل عليه، إنها كارمن التي تعود إلينا هذه المرة في صياغة جديدة كتبها محمد علي إبراهيم، وأخرجها المخرج الفنان ناصر عبد المنعم، وهي ليست مجرد عرض كلاسيكي، بل قراءة معاصرة لحكاية قديمة عن امرأة لا تنكسر، ورجل ينهار من فرط الحب، فكارمن هنا ليست مجرد فتاة غجرية جميلة، بل تجسيدٌ للحرية المطلقة، للمرأة التي لا تُروّض، ولا تخضع لقواعد المجتمع أو عواطف الرجال، وهي بهذا تصبح رمزًا لكل ما يخيف النظام: الغواية، الفوضى، والاختيار.
نص درامي برؤية حداثية:
اعتمد النص على بناء غير خطي، يبدأ من لحظة النهاية: خوسيه نافارو في الزنزانة بعد أن قتل كارمن، يواجه إسكامييو، غريمه العاطفي، في حوار يُعيد فتح الجرح، ومن هذا المشهد ينطلق الحكي في فلاش باك درامي ودوائر زمنية ورمزية غاية في الإتقان، لتعيد سرد الانحدار التدريجي لضابطٍ عسكري وقع في حب امرأة حرّة، فخسر نفسه وارتكب جريمة عشق، واللافت في المعالجة الدرامية هو دور مانويلا، قارئة التاروت، التي منحها النص صوتًا نبوئيًا وسرديًا، لتصبح شاهدًا ومُحرّكًا للأحداث في آن، بصوتها الغنائي وحضورها الصوفي الغامض.
إخراج بديع في مساحة ضيقة:
استطاع المخرج ناصر عبد المنعم أن يحوّل المساحة المحدودة لمسرح الطليعة إلى فضاء مفتوح على الصراع النفسي والجمالي، إذ مزج ببراعة بين الواقعي والرمزي، معتمدًا على الأداء والتكوين والإضاءة.
أما الديكور، الذي صممه أحمد شربي، فقد كان بسيطًا لكنه مرن وفعّال، ساعد على الانتقال السلس بين المشاهد دون الحاجة إلى تغييرات معقدة، أما الإضاءة التي صممها أبو بكر الشريف، فقد أدت دورًا أساسيًا في خلق الحالة النفسية للشخصيات، خاصة في المشاهد الليلية ومشاهد التوتر.
كارمن: تجسيد الغواية والحرية:
قدّمت ريم أحمد ولمن لا يعرفها نقول له أنها الطفلة الصغيرة هدى إبنة الفنان القدير محمد صبحي في مسلسله الأشهر يوميات ونيس، هذه الطفلة قد صارت كارمن اليوم، وقد قدمت شخصية كارمن ببراعة وحضور طاغٍ، وتفاصيل جسدية دقيقة في الحركة والنظرة والرقصة، كان أداؤها مزيجًا من الغواية واللامبالاة، امرأة تعرف أنها تُحبّ، لكنها ترفض أن تَحبّ بالطريقة التقليدية، وإن كان أداؤها الغنائي لم يكن قويًا في كل اللحظات، إلا أنه حمل روح النص وجمال الشخصية.
أما ميدو عبد القادر، في دور خوسيه، فقد قدّم أداءً متصاعدًا، يليق بالتحوّل التراجيدي في شخصية الضابط المقهور بالعاطفة، فتدرجه من الانضباط العسكري إلى الفوضى والقتل كان مقنعًا، وإن احتاج في بعض المواضع إلى مزيد من التحكم في الانفعال.
أداء جماعي متقن:
برزت ليديا سليمان في شخصية مانويلا، بأدائها الغنائي المميز، خاصة في المقاطع الإسبانية التي منحت العرض طابعًا غرائبيًا، يعيدنا إلى طقوس الغجر والتاروت والمصير المكتوب.
أما عبد الرحمن جميل في دور زوج كارمن، ومحمد حسيب في دور العجوز باستيا، ونهال فهمي في دور ميكائيلا، فقد شكّلوا معًا نسيجًا إنسانيًا حول القصة الأساسية، يعكس تفاعلات المجتمع مع مأساة العاشق والمعشوقة.
استعراض وموسيقى بروح أندلسية:
الموسيقى التي أعدّها حازم الكفراوي استندت إلى أوبرا بيزيه، لكنها جاءت بتوزيع مناسب لحجم المسرح، بينما قدّمت سألي أحمد استعراضات راقصة متقنة، تعكس روح الفلامنكو والغجر، وتعزز الإحساس بالإيقاع والمزاج العام.
أزياء تنطق بالدلالات:
الأزياء، رغم بساطة خاماتها، جاءت معبّرة عن الطبقة والدور: الأحمر لكارمن رمزًا للغواية والدم، الأسود لحزن خوسيه وقهره، والذهبي لإسكامييو الذي يتلألأ كنجمٍ على حلبة الحياة.
ولا يسعني بعد مشاهدة عرض "كارمن" كما قدّمه مسرح الطليعة إلا أن أقول أن هذا العرض لا يروي قصة حبّ تقليدية، بل يعرض مأساة إنسانية وجودية: كيف يمكن أن يدمّر الإنسان ذاته حين يحبّ من لا يمكن امتلاكه؟ كيف يتحوّل العاشق إلى جلاد؟ وكيف تنتصر المرأة التي تُقتل، حين ترفض أن تحيا خاضعة؟، إنه عرضٌ يثير الأسئلة أكثر مما يقدم الإجابات، وفي هذا تحديدًا تكمن قوته، لكن، ماذا يمكننا أن نفعل حين يكون الحب ضد العقل، وضد النظام، وضد النجاة؟
إن الحب المحرّم ليس مجرد انحراف عن الخطّ الاجتماعي، بل تمرد على قوانين الوجود ذاتها، إنّه سقوط حرّ في هاوية لا قاع لها، لا ينجو منها إلا من لم يُحبّ أصلًا، وحين تتجسّد الغواية في جسد امرأة، كما تجسّدت في "كارمن"، تصبح المرأة أسطورة، لا تُعاش بل تُعبد أو تُقتل.
لقد أراد خوسيه أن يوقف الزمن عند لحظة الامتلاك، لكن كارمن كانت من معدن آخر؛ لا تُمسك، لا تُحتجز، لا تُروّض، وكانت النهاية قدرًا لا مهرب منه، لأن المصير لا يكتب بالحبر بل بالدم.
في هذا العرض، لا ينتصر أحد: لا العاشق القاتل، ولا المرأة القتيلة، ولا المجتمع الذي يرقب المشهد دون أن يفهمه، تنتصر فقط الأسطورة، وتُترك لنا الأسئلة معلّقة في الهواء:
هل نُحب لنبني أنفسنا، أم لنُفنيها؟
هل الغواية شرّ، أم حرية في أبهى صورها؟
وهل المصير مكتوب فعلًا، أم أننا من نسنه بأقدامنا الراجفة فوق أرض الشغف؟
"كارمن" ليست امرأة، إنها اللحظة التي ينكسر فيها العقل أمام رغبة لا تُفسَّر.
وما الحب، في النهاية، إلا مغامرة في مواجهة المصير.
"كل التحية للمخرج ناصر عبد المنعم، الذي أخرج من بين ثنايا النص الكلاسيكي رؤية معاصرة، وجعل من 'كارمن' أسطورة تنبض على الخشبة، بكل ما فيها من شغف وجمال ودم واحتراق."