"الهدية بين الكرم والخصام.. عندما تنقلب النوايا!"

في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، تُعد الهدية من صور التراحم والتواصل بين الناس، وهي تعبير عن المودة، بل وقد تكون وسيلة لفتح القلوب وغلق أبواب الخلاف، ولكننا نلاحظ تحوّل هذا السلوك النبيل في بعض الأحيان إلى أداة للمفاخرة، أو إلى عبء اجتماعي يحمل خلفه نوايا مبطنة، أو حتى إلى سبب للخصومة وقطع العلاقات!
فما هو رأي الشرع في الهدية؟ وهل يجوز ردّها أو استردادها؟ وما حكم من لا يرد أو يزيد فيها؟
التهادي في الإسلام: سنة محببة
قال النبي ﷺ: "تهادوا تحابوا" (رواه البخاري في الأدب المفرد)، فالهدية في أصلها سنة نبوية تدعو إلى نشر المحبة والتآلف، وهي وسيلة مشروعة لتقوية العلاقات الاجتماعية والأسرية.
هل يجوز استرداد الهدية؟
أجمع جمهور العلماء على أن استرداد الهدية بعد قبولها لا يجوز، وهو مكروه في الشرع، بل شبّه النبي ﷺ من يسترجع هديته بالكلب يعود في قيئه! قال ﷺ:
"العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه" (متفق عليه).
ويُستثنى من ذلك حالة الأب إذا وهب لابنه، فيجوز له أن يرجع فيها كما ورد في بعض النصوص.
الرد على الهدية أو زيادتها
لا يُشترط في الهدية أن تُردّ بهدية مماثلة، ولكن من مكارم الأخلاق أن يرد الإنسان الجميل بالجميل. وقد قال النبي ﷺ:
"من صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه" (رواه أبو داود).
أما الزيادة في رد الهدية، فهي ليست ربا طالما كانت بقصد المكافأة والإحسان، وليست مشروطة أو مقرونة بعقد بيع أو قرض.
المجاملة أو المجازاة؟
عندما يهدي الإنسان هدية وهو ينتظر مقابلًا مساويًا أو أكثر منها، فإن النية تتحوّل من محبة إلى منفعة. وهنا تكمن الخطورة، فقد تفقد الهدية معناها الروحي وتتحول إلى عبء اجتماعي أو نوع من "المعاملة بالمثل"، وربما يؤدي ذلك إلى التباغض بدل التحابب.
والخصام.. حين يفسد الهدية
من المؤسف أن نرى من يرد الهدية عن خصومة أو يقاطع من أهداه في السابق، أو لا يعترف بها من الأساس، وهذا خلاف الهدي النبوي، فالهدية لا تُمنّ ولا تُكدر، وهي ليست صفقة تجارية، بل عمل صالح تؤجر عليه.
قال الله تعالى:
"يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى" [البقرة: 264]
وإن كان هذا في الصدقة، فالهدية من باب أولى أن تُقدَّم خالصة لوجه الله أو طلبًا للألفة لا الطمع.
خلاصة القول
الهدية عمل تعبدي اجتماعي، إذا صلحت النية فيه عظُم أجره، وإن فسدت النية أو تلوّثت بالمصالح تحوّل إلى عبء أو سبب للعداوة.
الشرع ينهى عن استرداد الهدية، ويحث على مكافأتها بالإحسان أو الدعاء، وينهى عن المنّ والأذى، ويدعو إلى تصفية النفوس لا تعقيد العلاقات.
فلنُهْدِ بإخلاص، ولنرد بإحسان، ولنعفُ إذا قصّر من أهدانا، حتى تظل الهدية وسيلة للتقارب لا وسيلة للفرقة.