البلد بتحكي أين ذهب الكبير؟

كان يُقال في زمان مضى: "الكبير كبير بأخلاقه، قبل ماله وسنه"، وكان إذا ذُكر الكبير في العائلة أو في البلد، انحنت له الرؤوس احترامًا، لا خوفًا. كبير العائلة كان مأمنًا وقت الشدائد، وملاذًا عند النزاعات، وصوتًا يُسمع في وقت الفوضى، وسندًا للمحتاج والمظلوم، وبلسمًا لكل مريض.
لكن، للأسف، صرنا نعيش زمنًا أصبح فيه الكبير اسمًا بلا فعل، ومقامًا بلا هيبة. هل اندثرت تلك المسميات؟ أم أننا فقدنا الثقة في أنفسنا، وفي القيم التي ورثناها؟ لم يعد الكثيرون يفهمون معنى أن تكون كبيرًا، فالكبير ليس بمنصبه، ولا بماله، بل بمواقفه، بحكمته، بصمته وقت الغضب، وبصوته حين تُطلب النصيحة.
صار الناس اليوم يقولون "نفسي نفسي"، وكلٌّ يلهث خلف مصلحته، وقلّ من يحمل همّ غيره، أو يواسي مريضًا، أو يواكب مظلومًا. حتى من يتصدرون المجالس ويتزينون بالمظاهر، ما هم إلا كـ"كبار صور" بين منافقين، يتصدرون ولا يُقدّمون، يتكلمون ولا يُسمعون، يتفاخرون ولا يُنصفون.
الكبير الحق هو من يجمع الناس لا يفرقهم، من يُصلح لا يُفسد، من يُواسي لا يُهين، من يُعلم بعلمه، ويُغني بماله، ويُعزز بقيمه. لكن حين يختفي هؤلاء، وتغيب أفعالهم، نضيع نحن بين المتكبرين والمنافقين، ونفقد الاتجاه.
والله إننا اليوم بحاجة إلى "كبير" بمعنى الكلمة، يُعيد للدين مكانته، وللحياء احترامه، وللناس قيمتهم. كبير لا بالمال، بل بالمروءة، لا بالعلم وحده، بل بالعمل به، لا بالقوة، بل باستخدامها لنصرة الضعفاء.
فيا من تحنّ إلى زمن الكبار الحقيقيين، لا تيأس. كن كبيرًا في بيتك، بين أهلك، في حيّك، في موقفك. فربّ كبيرٍ مجهول، خير من ألف مُتفاخر مزيف.