18:10 | 23 يوليو 2019

فريد عبد الوارث يكتب: نمور من ورق .. إساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي

12:41pm 15/07/25
فريد عبد الوارث
فريد عبد الوارث

في زمن العوالم الافتراضية، حيث تختلط الحقيقة بالوهم، و تُختزل القيم في رموز تعبيرية، نشهد ظاهرة آخذة في التوسع و هي إساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، و على رأسها "فيسبوك"، كأداة للادعاء و التضليل، لا للتواصل والمعرفة، هذا الانحراف الوظيفي دفع بمجتمعات بأكملها نحو مأزق أخلاقي و ثقافي، قوامه نمور من ورق، يزأرون خلف الشاشات لكنهم لا يملكون الجرأة لمواجهة الواقع.
منصات الحرية تتحول إلى ميادين افتراء
حين وُجدت وسائل التواصل الاجتماعي، كانت تبشّر بعصرٍ جديد من حرية التعبير و الانفتاح الفكري، لكن ما حدث فعليًا أن هذه الحرية تحوّلت لدى البعض إلى رخصة مفتوحة للسبّ، و التجريح، ونشر الأكاذيب، أصبح "فيسبوك" أشبه بساحة قتال افتراضي، حيث تسقط القيم، و تُخرق الخصوصيات، و يُصنّف الأفراد بلا معايير واضحة، كل ذلك تحت شعار "الرأي الشخصي".
كم من سمعة أُهينت؟ و كم من شخص طُعن في كرامته عبر منشور أو تعليق لا يتعدى سطورًا قليلة؟ يُكتب بمنتهى السهولة، و يُشارك بمئات المرات، لكنه يُخلّف ندوبًا لا تُمحى.
ظواهر لافتة في عالم "فيسبوك"، تتمثل في تصاعد نماذج بشرية تدّعي الفهم، و تتصدر النقاشات، و تُظهر شجاعة وهمية في مهاجمة كل شيء، الحكومات، المؤسسات، العلماء، بل حتى القيم الدينية و الاجتماعية، يكتبون و كأنهم حَمَلة الحقيقة المطلقة، لكنهم في الواقع يفتقدون للمعرفة و المنهج، و يتسترون خلف الشاشات! 
هذه "النمور الورقية" لا تملك مقومات القيادة الفكرية، لكنها تصنع جمهورًا سهل الانقياد، و تستقطب فئات تبحث عن صوت غاضب، لا عن فكرة ناضجة، و هنا يكمن الخطر، حين يصبح الصوت العالي بديلًا عن المنطق، والادعاء بديلاً عن الإنجاز.
فلم تعد وسائل التواصل مجرد أدوات ترفيه، بل تحوّلت إلى مرجع يومي يُشكّل الرأي العام و يوجّه المزاج الاجتماعي، هذا التأثير أصبح مقلقًا، خاصة عندما يُستخدم الفضاء الرقمي لتغذية مشاعر السخط، و الكراهية، و النرجسية الجماعية.
نفسياً، تسبب هذا الواقع في ارتفاع نسب القلق الاجتماعي، الاكتئاب، و انعدام الثقة بالنفس، فالكثير من المستخدمين يقعون ضحايا للمقارنة، ويسعون جاهدين لتقديم نسخة "محسّنة" من حياتهم، متجاهلين أن ما يُنشر غالبًا ما يكون مشوَّهًا أو مزيفًا.
أما من الناحية الاجتماعية، فقد أضعفت هذه الظاهرة النسيج المجتمعي، فبات الفرد يُشكّك في الآخر، و تراجعت قيم التضامن، و الإنصات، والتفكير النقدي، لحساب ردود الفعل الفورية، و الأحكام المسبقة، و الخطاب المتشنّج.
فيسبوك يُعتبر اليوم أحد أقوى أشكال "الإعلام البديل"، حيث يسبق الخبر الصحفي التقليدي، و يؤثر في الرأي العام أكثر من قنوات رسمية، لكن المشكلة تكمن في غياب الضوابط التحريرية، و انعدام المسؤولية الأخلاقية لدى كثير من المستخدمين.
ما الحل؟
لا يكفي أن نُطالب بمنع أو تقييد استخدام هذه الوسائل، فالحلول القمعية لا تُجدي أمام أدوات بهذا الانتشار والتأثير، ما نحتاجه فعلًا هو مشروع ثقافي وتربوي شامل، يعيد للمجتمع وعيه الرقمي، وهذا يشمل: تدريس "التربية الرقمية" في المدارس والجامعات، لتمكين الأجيال من استخدام التكنولوجيا بشكل أخلاقي بالإضافة إلى تطوير التشريعات التي تحاسب على الإساءة الإلكترونية دون المساس بحرية التعبير، فضلاً عن تشجيع النقد الذاتي، و بناء ثقافة إعلامية تُفرّق بين الرأي و المعلومة، و أخيراً تمكين الإعلام المهني للعب دور رقابي وتوعوي يواكب التحولات الرقمية.
في نهاية المطاف، تبقى وسائل التواصل الاجتماعي مجرّد أدوات، ما يحدد قيمتها هو طريقة استخدامها، إما أن نجعل منها جسورًا للتفاهم والتنوير، أو نتركها تتحول إلى معاول هدم تزرع الانقسام و الضغينة.
فقد تعلو بعض الأصوات مؤقتًا، لكن الحقيقة لا تُهزم أمام الصراخ، فالمجتمعات التي تبني وعيها على المعرفة، لا على الفيسبوك، هي وحدها القادرة على أن تواجه تحديات العصر الرقمي، و تنتصر.
 

تابعنا على فيسبوك

. .
paykasa bozum