فريد عبد الوارث يكتب: من الحلم إلى الهاوية: كيف خسر الخليج رهانه على "الشرع"؟

تزامن صعود أحمد الشرع إلى واجهة الحكم في سوريا أواخر عام 2024، مع تسارع المراهنات الخليجية على هذا الوجه الجديد الذي رآه كثيرون تجسيدًا لإمكانية استعادة سوريا من قبضة المحور الإيراني، و إعادة بنائها كدولة وطنية ذات سيادة، مستقرة و متوازنة.
الشرع – الذي برز سابقًا كقيادي في "هيئة تحرير الشام" و تحوّل إلى زعيم تكنوقراطي معتدل بمباركة عربية – مثّل، في نظر العواصم الخليجية، فرصة لتصحيح المسار السوري، وإعادة البلاد إلى محيطها العربي، لكن سرعان ما تكشّف أن الرهان لم يكن مبنيًا على أساس واقعي! فما بين تصدّع الجبهة الداخلية، و تصاعد التدخلات الخارجية، خاصة من إسرائيل، لم يلبث المشروع حتى انهار بشكل دراماتيكي.
فجر تفاؤل... و غروب وشيك
في خطاب تنصيبه، تحدث الشرع بلغة جامعة، مؤكدًا أن "الدروز مكوّن وطني أصيل"، وأن سوريا الجديدة لن تكون طائفية أو انتقامية، كانت تلك الكلمات بمثابة جواز مرور ناعم نحو الخليج، لا سيما بعد أن أبدى استعدادًا لإعادة العلاقات مع دول الخليج مقابل تحجيم الحضور الإيراني و وقف التمدد التركي في الشمال.
سرعان ما أعلنت الإمارات دعمها الكامل لـ"المرحلة الانتقالية"، و تبعتها السعودية والكويت ببيانات دبلوماسية حذرة و لكن إيجابية، بدا و كأن لحظة إحياء سوريا قد حانت.
إلا أن الواقع سرعان ما انقلب على رأسه! فما بين غموض في سلطة الشرع الفعلية، وانفلات أمني في الجنوب، وتجاذبات طائفية، بدأت المرحلة الانتقالية تتآكل من الداخل، و تُنهش من الأطراف.
الميدان لا يرحم: السويداء تنفجر
بدأت أولى الهزات في السويداء، مع تفجّر اشتباكات مسلحة بين مكونات درزية و عشائرية بدوية على خلفيات ثأر قديمة، و ممارسات أمنية فجّة من قبل بعض التشكيلات التابعة للشرع، الدولة، في سعيها لفرض "هيبة القانون"، أرسلت وحدات عسكرية، غير أن هذه الأخيرة اصطدمت بردّ شرس من الفصائل الدرزية.
في مشهد يشبه حروب المدن، اندلعت معارك في شوارع السويداء، خلّفت أكثر من 700 قتيل و آلاف النازحين، و بينما كانت الدولة تحاول التوسط و احتواء النزاع، حلّقت الطائرات الإسرائيلية في سماء الجنوب السوري، لتوجّه رسائلها بصواريخ حقيقية على مواقع حكومية، تحت عنوان "منع المجازر بحق الدروز".
إسرائيل تتدخل... على عينك يا تاجر
استغلّت إسرائيل حالة التفكك في سوريا، لتصعد دورها السياسي والعسكري بشكل غير مسبوق، فقد شنت غارات على منشآت سيادية في دمشق، بينها وزارة الدفاع ومقار أمنية، بحجة منع الجيش من "قمع المدنيين الدروز".
كما رعت تل أبيب اتفاقًا يقضي بانسحاب القوات الحكومية من السويداء، مقابل وقف إطلاق النار، وإعطاء المجلس العسكري الدرزي المحلي سيطرة فعلية على المدينة.
في خطوة أخطر، بدأت إسرائيل تروّج لمشاريع اقتصادية وتعاون أمني في جنوب سوريا، بحجة ضمان استقرار المنطقة، فيما يُفسر استراتيجياً على أنه محاولة حثيثة لترسيخ كيان درزي شبه مستقل يخدم المصالح الإسرائيلية، ويكبح أي عودة للدولة السورية الموحدة.
شرعية الشرع تتهاوى
كل هذه التطورات أضعفت موقف أحمد الشرع أمام الداخل والخارج، فالمجتمع الدرزي لم يعد يثق بسلطته، والعشائر البدوية ترى فيه خصمًا لا حليفًا. أما الخليج، فقد بدأ يُراجع حساباته، بعد أن تبيّن أن القيادة الانتقالية عاجزة عن ضبط الأمن، وغير قادرة على تحجيم إيران أو وقف عربدة إسرائيل.
تحول الشرع من رمزٍ للتحول السلمي إلى وجهٍ محاصر، فاقد للسيطرة، تتنافس القوى الخارجية على استغلال موقعه، بينما تعاني سوريا من تصدع داخلي يُنذر بالأسوأ.
انعكاسات استراتيجية تهدد بنية الأمن القومي العربي
لم تكن الأزمة في سوريا مجرد حالة انهيار محلي، بل تسببت في ارتدادات خطيرة على بنية الأمن العربي ككل، ففشل الرهان الخليجي لم يقتصر على الإخفاق السياسي، بل كشفت التطورات عن نقاط ضعف فادحة في قدرة العرب على صناعة نفوذ مستقر في بيئة صراعية كهذه، وتتمثل أبرز الانعكاسات فيما يلي:
تآكل السيادة السورية بالكامل: لم يعد للدولة السورية حضور فعلي في الجنوب، حيث باتت السويداء محكومة بمجلس عسكري محلي بدعم إسرائيلي، وهو ما يفتح الباب أمام نمو نماذج مشابهة في مناطق أخرى.
مأسسة الطائفية الجغرافية: عبر رعاية إسرائيل لكيانات محلية مسلّحة، يُكرّس الواقع الطائفي كأمر واقع، ما يشكل خطرًا وجوديًا على وحدة سوريا أولاً، وعلى فكرة الدولة الوطنية في المنطقة ثانيًا.
تفكك وحدة القرار الخليجي: بعدما كانت الدول الخليجية تقف صفًا واحدًا خلف مشروع إعادة سوريا إلى الصف العربي، باتت اليوم تختلف في الأولويات: بين من يريد الانسحاب، ومن يسعى لحلول بديلة، ومن بدأ يفتح قنوات خلفية مع قوى إقليمية غير عربية.
انكشاف الجبهة العربية أمام التمدد الإيراني والتركي: انشغال العرب بتجريب مشروع الشرع، أتاح لطهران تعزيز حضورها في دير الزور والبوكمال، ولأنقرة مد نفوذها إلى منبج وعين العرب، فيما ظلت دمشق عاجزة عن الردع أو الاسترداد.
سوريا على مفترق وجودي
ما حدث في السويداء ليس مجرد حادثة أمنية عابرة، بل نقطة تحوّل تاريخية في الصراع السوري، وفي علاقة هذا البلد مع محيطه العربي، لقد فقدت دمشق زمام المبادرة، وفقد الخليج رهانه على التغيير من الداخل، ونجحت إسرائيل في ترسيخ دور جديد يتجاوز الضربات الجوية إلى هندسة الجغرافيا السياسية للجنوب السوري.
بات واضحًا أن سوريا إما أن تعود دولة مركزية شاملة، أو تتفتّت إلى كتل طائفية تدار من الخارج! وفي الحالتين، فإن الثمن سيكون غاليًا، ليس على السوريين فقط، بل على العرب كافة.
فالأسئلة المطروحة اليوم لم تعد: "مَن يحكم سوريا؟"، بل: "هل تبقى سوريا؟". وإن بقيت، فبأي شكل؟ وتحت أي راية؟ وإلى متى؟