من غزة إلى دارفور: الجوع كسلاح و التقسيم هدف معلن

بينما تتوجه أنظار العالم نحو غزة التي تُصارع المجاعة و الدمار، يُغفل الإعلام العربي والعالمي عن فاجعة لا تقل مأساوية، تضرب قلب السودان في مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، مأساة إنسانية تتعمّدها قوى إقليمية لفرض واقع جديد في خارطة السودان، بدم بارد و صمت مريب.
دارفور.. الجبهة المنسية و المخطط المكشوف
في إقليم دارفور، تُحكم المليشيات المسلحة التابعة لقوات الدعم السريع سيطرتها على معظم الولايات، بدعم عسكري ولوجستي من الإمارات، باستثناء مدينة واحدة: الفاشر، هذه المدينة هي آخر قلاع الجيش السوداني في الإقليم، و أحد أهم المواقع الاستراتيجية في غرب البلاد.
من يسيطر على الفاشر، يُمسك بمفاتيح المرور إلى ثلاث دول: مصر عبر درب الأربعين، تشاد من معبر الطينة، و ليبيا عبر جبل العوينات، هذا الموقع الجغرافي الحساس يجعل المدينة هدفًا شديد الأهمية لقوى تسعى لإعادة رسم الجغرافيا السودانية بما يخدم مصالحها الخاصة.
حصار الموت.. الفاشر تواجه المجاعة وحدها
منذ أشهر، تتعرض الفاشر لحصار خانق من قوات الدعم السريع، المدعومة بمرتزقة أجانب، بعضهم جُلب من كولومبيا، بحسب تقارير محلية ودولية، الطائرات المسيّرة والمدفعية الثقيلة تحيط بالمدينة، والطرقات قُطعت بالكامل.
النتيجة؟ أكثر من مليوني إنسان محاصرون بلا غذاء أو دواء أو ماء. في مشهد يعكس بؤسًا إنسانيًا مطلقًا، يلجأ السكان إلى "الأمباز" — علف حيواني مصنوع من قشر الفول السوداني — كمصدر للبقاء، لا شيء متاح سوى الصلوات و الدعاء في مواجهة الجوع والموت البطيء.
الهدف ليس الفاشر.. بل تفكيك السودان
الهجوم على الفاشر ليس مجرد معركة عسكرية، بل جزء من مخطط أوسع يُمهّد لتقسيم السودان، الإمارات، التي قطعت معها الخرطوم العلاقات الدبلوماسية قبل شهور، تُتهم صراحة بالعمل على دعم قوات الدعم السريع لانتزاع دارفور بالكامل، وإعلان حكومة موازية تحت اسم "حكومة غرب السودان".
هذا السيناريو يعني خلق ثلاث حكومات متوازية في بلد واحد الأولى في الخرطوم، والثانية في دارفور، و الثالثة ربما في شرق السودان. وهو ما يُعيد للأذهان سيناريو التقسيم الذي قسّم السودان سابقًا إلى شمال وجنوب.
صراع المصالح.. والضحايا دائمًا من الأبرياء
تُعاقب الإمارات السودان، لأنه تجرأ على فضح تدخلها أمام محكمة العدل الدولية، ولأن جيشه استعاد زمام المبادرة في الخرطوم. تُعاقبه لأنه حرمها من السيطرة على الذهب والثروات الزراعية، ولأنه ببساطة رفض أن يكون تابعًا.
الفاشر تُدفع الآن ثمن هذا العصيان، بثمن بشري باهظ: 130 ألف قتيل، 11 مليون نازح، و انهيار شامل في البنية التحتية للمياه و الكهرباء و الخدمات الأساسية، فاجعة إنسانية تُصنّف كواحدة من أسوأ الكوارث في تاريخ العرب الحديث.
صمت عربي.. و شبهات تواطؤ
ما يُثير الغضب هو الصمت العربي و الإعلامي تجاه ما يحدث، وكأنّ الأرواح السودانية أرخص من غيرها، تُرك شعب دارفور، كما تُرك شعب غزة، يواجه مصيره وحده، بينما يتعامل البعض مع الإمارات على أنها "شريك تنمية"، لا راعٍ لمليشيات الموت.
لكن الحقيقة أوضح من أن تُخفى، فمن غزة إلى الفاشر، بصمات "شيطان العرب" — كما بات يُطلق البعض على السياسات التخريبية لأبو ظبي — واضحة: تجويع، حصار، دعم للمليشيات، و إعادة رسم الخرائط خدمةً لأجندات استعمارية حديثة.
دارفور تنادي.. من يستجيب؟
إن ما يجري في السودان اليوم ليس شأناً داخلياً فقط، بل إنذار أخير لكل من يحلم بوطن عربي حر، فالمخطط نفسه قد يُعاد تنفيذه في أماكن أخرى، والضحية التالية قد تكون أقرب مما نتصور.
لذلك، لا بد من دق ناقوس الخطر: الفاشر ليست مجرد مدينة، إنها معركة كرامة، ومركز مقاومة لمخططات تفتيت أمة بأكملها. إن لم تُنقذ الفاشر اليوم، فقد لا يبقى ما يُنقذ غدًا.
كلمة أخيرة
منذ سنوات، حذّر كثيرون من الدور التخريبي للإمارات في المنطقة، وتعرّضوا للسخرية والاتهامات، لكن اليوم، تتكشف الحقائق أمام الجميع، وما بين غزة والفاشر، تُرسم خريطة جديدة للشرق الأوسط — بخيوط من دماء الأبرياء.
الفاشر تستصرخكم… فلا تخذلوها.