فريد عبد الوارث يكتب: ألبان الأطفال.. عبء يُثقل كاهل الأسر وصرخة من أجل إنقاذ الطفولة

في خضم التحديات الاقتصادية المتزايدة، تواجه الأسر اليوم أزمة صامتة لكنها مؤلمة: الارتفاع الجنوني في أسعار ألبان الأطفال، والذي جعل من تلبية احتياجات الرُضّع معاناة حقيقية لأمهات و آباء يُصارعون كل يوم لتأمين غذاء ضروري لا يُمكن الاستغناء عنه.
هي ليست مجرد عبوة لبن، بل حياة طفل، وراحة أم، و حق إنساني أساسي، بات اليوم مهددًا بين مطرقة الغلاء و سندان الغياب الحكومي شبه الكامل.
"أشعر بالعجز كل يوم".. قصص من الواقع
في أحد مراكز الأمومة والطفولة، تقف أم لطفلين، تحمل بين ذراعيها رضيعًا لم يتجاوز شهره الرابع، و تروي قصتها بألم:
"كل مرة أذهب فيها للصيدلية أعود و أنا مهمومة فعبوة اللبن كانت بـ90 جنيهًا منذ أشهر قليلة، واليوم تجاوزت 200 جنيهًا، زوجي عامل يومي، بالكاد نؤمّن الطعام لنا، فكيف أشتري الحليب كل ثلاثة أيام؟
تلك القصة تتكرر على لسان كل أم، من الأحياء الشعبية إلى الطبقة المتوسطة، من المدن إلى الأرياف، الجميع يشكون من نفس المعاناة فالأسعار لا ترحم، و الدخل لا يكفي، و البدائل لا وجود لها.
وفقًا لإحصاءات غير رسمية صدرت عن جمعيات حماية المستهلك و مراكز الأبحاث الاقتصادية، ارتفعت أسعار ألبان الأطفال بنسبة تتراوح بين 60 إلى 120% خلال العامين الماضيين، ويُقدَّر متوسط استهلاك الطفل الواحد بحوالي 3 إلى 5 عبوات شهريًا، حسب العمر و النوع.
ما يعني أن الأسرة الواحدة قد تحتاج إلى 600 - 1000 جنيه شهريًا فقط لتأمين اللبن، أي أن أكثر من ربع الدخل يُنفق فقط على اللبن، دون حساب الحفاضات، و الأدوية، و الطعام، و فواتير الحياة الأخرى.
السوق السوداء.. باب آخر من المعاناة
غياب بعض أنواع الألبان من السوق النظامي، سواء لأسباب استيرادية أو احتكارية، فتح الباب على مصراعيه أمام تجار السوق السوداء.
تقول صيدلانية في منطقة شعبية
"بعض التجار يُخفون عبوات الألبان المدعّمة، ليبيعوها لاحقًا بأسعار مضاعفة، رأيت علبة حليب مدعّم تُباع بـ250 جنيهًا، رغم أن سعرها الرسمي أقل من النصف!
الأصعب أن بعض أنواع الألبان تُعتبر علاجيّة، يُوصفها الأطباء للأطفال الذين يعانون من حساسية أو مشاكل في الهضم، و هي غالبًا مستوردة، و قد يصل سعر العلبة الواحدة منها إلى 400 أو 500 جنيه، ما يجعلها حلما بعيد المنال لأسر كثيرة.
الآثار الصحية و النفسية على الأطفال
المشكلة لا تتوقف عند الجانب الاقتصادي فقط، بل تمتد لتترك آثارًا عميقة على صحة الأطفال، فعدم حصول الطفل على كفايته من الحليب يؤدي إلى سوء تغذية، ضعف عام، تأخر في النمو العقلي والبدني، ومشاكل في المناعة، كما أن اللجوء إلى خلطات منزلية بديلة غير علمية يُعرّض الأطفال لخطر التسمم الغذائي.
كذلك، تضطر بعض الأمهات إلى تقليل الجرعات أو تخفيف الحليب بالماء لإطالة فترة استخدام العبوة، ما يضر بصحة الرضيع دون أن يشعرن.
في ظل هذه المعاناة، تتوجه أصابع الاتهام إلى سياسات مسؤولي الصحة الذين تقاعسوا عن التدخل الجاد، سواء بتوفير الألبان المدعمة بالكميات الكافية أو ضبط الأسواق.
الخبراء يقترحون عدة حلول عاجلة، من بينها:
توسيع مظلة الدعم الحكومي لتشمل جميع الأطفال دون سن العام، مع زيادة منافذ التوزيع في مراكز الصحة.
تشجيع الاستثمار في صناعة ألبان الأطفال محليًا لتقليل الاعتماد على الاستيراد وتقليل التكلفة.
تفعيل آلية تسعير عادلة تُراعي تكلفة الإنتاج دون إرهاق المستهلك.
محاربة الاحتكار والمضاربة عبر رقابة حقيقية من الجهات المختصة.
إطلاق حملات توعية لتشجيع الرضاعة الطبيعية عندما تكون ممكنة، و تقليل الاعتماد على الألبان الصناعية.
"نُريد أن نُربي أبناءنا بكرامة"
تُختَتم هذه الأزمة اليومية بكلمة قالتها إحدى الأمهات أمام مركز توزيع ألبان ...
"لسنا نُطالب بالترف، فقط نُريد أن نُطعم أطفالنا.. أليس هذا حقهم؟"
نعم، إنه حقهم، و واجب الدولة و المجتمع أن يصونه، فأزمة ألبان الأطفال ليست مجرد قضية أسعار، بل قضية كرامة، وعدالة، وإنسانية..
فلا شيء أقسى من أم لا تملك ثمن زجاجة حليب، و لا مشهد أكثر قسوة من رضيع يبكي جوعًا و لا أحد يسمع صراخه.