فريد عبد الوارث يكتب: المتلون .. قناع الفضيلة على وجه الانتهازية

حين تتداخل السياسة بالدين، و تختلط القيم بالشعارات، يبرز على السطح نموذج خادع و خطير .. المتأخون المتلون مدّعي الفضيلة، هذا النموذج لا يعيش في الظل، بل يحرص على أن يتصدر المشهد، يرفع راية الأخلاق، ويزعم أنه في مقدمة الصفوف، بينما لا يعدو كونه ممثلًا بارعًا، يبدل أقنعته بحسب المتغيرات، ويحرّك ألفاظه كما يُحرّك لاعب الشطرنج بيادقه نحو المصلحة.
فكر لا يُعلَن، بل يُمارَس
المتلون ليس بالضرورة منتسبًا رسميًا لجماعة دينية أو تيار سياسي بعينه، بل قد يكون موظفًا، إعلاميًا، أو حتى ناشطًا اجتماعيًا، ما يجمع هؤلاء هو فكر واحد و فكر يقوم على توظيف الدين لتحقيق المكاسب الشخصية، لا على أساس من الإيمان أو الفهم العميق للنصوص، يُحدّثك عن "الثوابت"، و"أمة الإسلام"، لكنه في الواقع يسعى إلى تمكين نفسه أولًا، و تحقيق ثوابته هو، التي لا تمت للأمة بصلة.
الوجه المتلون... مواقف لا تُمسك بها يد
لا ثبات في مواقف المتأخون، بالأمس مع المعارضة، و اليوم في أحضان السلطة، في جلسات خاصة يُبدي رأيًا، و على المنابر يُظهر العكس، يدين الفن تارة، و يصافح الفنانين أمام الكاميرات تارة أخرى، يحتج على الفساد المالي و هو متورط فيه من رأسه حتى أخمص، يسخر من خصومه السياسيين و يقلدهم إذا ما اقتضت الظروف، إنه الانتهازي المتقن، الذي يقرأ اللحظة جيدًا ويتكيف معها، و لو على حساب المبادئ التي يدّعي الدفاع عنها.
مدّعو الفضيلة... سيف الوعظ على رقاب الناس
من أخطر صفات هذا النموذج أنه لا يكتفي بتلوّنه، بل ينصّب نفسه رقيبًا على الناس! يوزع شهادات التدين و الوطنية، يُحرّم ويُحلّل وفق مزاجه، ويضع نفسه موضع القاضي، ناسفًا لكل اعتبار للفكر، أو حرية الرأي، أو الاجتهاد، و المفارقة الكبرى أنه يطالب الناس بالتقوى، بينما يُدير صفقاته في الخفاء، يُدين الكذب وهو يمارسه بإتقان، يُهاجم الخيانة وهو أول من يطعن في الظهر متى سنحت الفرصة.
من أبرز ملامح المتلون أنه لا يصعد بمجهوده، بل يتسلّق على أكتاف الآخرين، يتقن التطبيل عند الحاجة، و يُجيد النفاق لمن بيدهم القرار، يقفز من مركب إلى آخر بلا خجل، ويتقدم الصفوف فقط حين تكون الأضواء مسلطة يرفض العمل الحقيقي في الخفاء، لأنه لا يُضيف إلى رصيده الدعائي شيئًا، و في كل مرة يحاول أن يبدو وكأنه "الرجل الصالح في زمن الفتن"، بينما هو جزء من الفتنة ذاتها.
خطره على وعي المجتمعات
تكمن خطورة هذا النموذج في أنه يُربك الوعي الجمعي، فهو يستخدم لُغة الدين لإقناع الناس، و يستغل العاطفة الدينية لتبرير،، و بما أن العامة – في كثير من المجتمعات – تميل إلى من يتحدث باسم الفضيلة، فإن حضوره الكثيف في المشهد يؤدي إلى تشويه المفاهيم، و تثبيت صورة مغلوطة عن الصالحين، مما يُضعف ثقة الناس بالمصلحين الحقيقيين.
الإعلام والسوشيال ميديا... خطاب مزدوج
في العصر الرقمي، وجد المتلون بيئة مثالية للانتشار، في وسائل التواصل، ينشر المواعظ، و يندب حال الأمة، و يتحدث عن المؤامرات الكبرى، لكنه في الوقت نفسه، يُمارس التنمر على خصومه، و يُشارك في حملات التشويه، و يبث الإشاعات التي تخدم، وبين منشوراته المثالية، تمرر أفكاره المتطرفة، بلغة تبدو معتدلة لكنها مُغلّفة بسمّ الانقسام والكراهية.
مواجهة المتلون ليست بالمزايدة عليه، بل بتعرية خطابه، و كشف تناقضاته، وردّه إلى أفعاله لا أقواله، المطلوب اليوم ليس مزيدًا من الشعارات، بل مساءلة حقيقية لكل من يدّعي أنه "يمثل الفضيلة" أو "يتحدث باسم الدين"، لا أحد فوق النقد، ولا أحد يحتكر الحقيقة، والوعي وحده هو السلاح القادر على إسقاط أقنعة الزيف.
في زمن الضجيج، لا تنخدع بمن يرفع الصوت عاليًا، فالصادق لا يحتاج إلى صراخ، و المصلح لا يتزيّن بالمظاهر، دعونا نميّز بين من يعيش الفضيلة، ومن يدّعيها، بين من يسير في الظل صامتًا يعمل، ومن لا يعمل إلا حين تشتغل الكاميرات، فكثيرون يرتدون عباءة الدين و هم أبعد الناس عن روحه، وليس كل من تظاهر بالتقوى تقيًا، ولا كل من تحدث عن الوطنية وطنيًا فالعبرة دومًا وأبدًا بالمواقف لا بالخطابات.