18:10 | 23 يوليو 2019

المتحف المصري الكبير يضيء المسيرة: مصر تكتب للعالم رسالة التمكين لـ "ذوي الهمم"

10:44pm 29/10/25
جانب من الفاعليات
محمد ابو العجب

 

 

​بمناسبة انطلاق المتحف المصري الكبير، تقف مصر شاهدة على مسيرة إنسانية لا مثيل لها في التاريخ؛ مسيرة تكريم ودمج الأشخاص ذوي الإعاقة. تبدأ هذه الملحمة من صلب العصر الفرعوني، حيث الكرامة الإنسانية لا تُفصل عن القدرات الجسدية، لتصل إلى ذروتها في العصر الحديث، في ظل قيادة سياسية جعلت من التمكين الشامل استراتيجية وطنية.

​1. التمكين في العصر الفرعوني: احترام الجسد وريادة الطب

​لقد كان التعامل مع الأشخاص ذوي الإعاقة في مصر القديمة نموذجًا حضاريًا سبق عصره، حيث لم تُعتبر الإعاقة عائقًا، بل كانت مدخلاً لمكانة اجتماعية أو وظيفية مرموقة. الأصول الأخلاقية والاجتماعية الراسخة وثّقتها البرديات ووصايا الحكماء، التي كانت بمثابة قوانين غير مكتوبة تؤكد على قيمة الاحترام والدمج، مثل الوصية الخالدة التي تنص على "حذار من مهاجمة الأعرج، ولا تسخرن من أعمى".

​وفي هذا المجتمع المُنصف، تبرز شواهد أثرية موثقة في الكتب والمقالات المنشورة تؤكد على هذا الدمج؛ فقد وصل القزم سنب إلى منصب رفيع كـ رئيس أقزام العصر الملكي والمشرف على رعاية الملابس الملكية، وحظي بالدفن في مقبرة فخمة. كما يوثق التاريخ وصول الملك سيبتاح إلى سدة الحكم وحكمه للبلاد على الرغم من معاناته من شلل في ساقه بسبب شلل الأطفال، مما يؤكد أن العيب الجسدي لم يكن مانعاً من تولي السلطة السيادية. كما برع العازفون العميان كفنانين مرموقين في الحياة الدينية والجنائزية، مستغلين قدرتهم الفائقة على حفظ الترانيم والمقامات الموسيقية، مما يبرز الدمج الفني والروحي.

​ويعد الإبداع الطبي شاهداً على العبقرية الفرعونية التي لم تتوقف عند التكريم المعنوي؛ فقد كان المصريون القدماء رواداً في مجال الأطراف التعويضية. يبرز اكتشاف الطرف الصناعي الأقدم في التاريخ، وهو القدم الخشبية (إصبع القدم الكبير) الذي عُثر عليه في الفيوم لمومياء السيدة "تا. باكت- إن- آمون"، التي عرفت باسم "فتاة الفيوم". صُنع هذا الطرف ببراعة من الخشب والجلد ليعوض الإصبع المبتور، وأثبتت الدراسات أنه كان وظيفيًا ويساعد صاحبته على المشي، مما يجعله إنجازاً طبياً هائلاً مسجلاً في أقدم المراجع.

​الملك الذهبي توت عنخ آمون ورمزية الإتاحة الشخصية:

​تحتل قصة الملك توت عنخ آمون أهمية خاصة في سياق الإتاحة الفرعونية. لقد أثبتت الدراسات التشريحية المتقدمة التي أُجريت على موميائه أنه كان يعاني من مشكلات صحية ناجمة عن مرض وراثي وإصابات، ما جعله يعاني من إعاقة حركية في قدمه تتطلب استخدام وسيلة مساعدة. وقد جاء هذا الإثبات مدعومًا بالاكتشاف الأثري المذهل داخل مقبرته، حيث عُثر على ما يقرب من مائة عصا وعكاز، لا تُعد مجرد مقتنيات ملكية، بل هي دليل قاطع على الإتاحة الشخصية والوعي التام بضرورة توفير الأدوات المساعدة للحركة لأعلى سلطة في البلاد، ليتمكن الملك من أداء مهامه والتحرك داخل القصر.

​2. العصر الحديث والإنجازات الكبرى: من الرعاية إلى التمكين الشامل

​في العصر الحديث، قفزت مصر قفزة نوعية في هذا الملف، محولة النظرة من "الاحتياج" إلى "القدرة"، بفضل توجيهات واهتمام القيادة السياسية.

​شهد ملف الأشخاص ذوي الإعاقة دعماً غير مسبوق في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي أكد في كل محفل، وتحديداً في احتفالية "قادرون باختلاف"، أن هؤلاء الأبناء هم شريك أساسي في بناء المستقبل. وقد تجسد هذا الدعم في سلسلة من الإنجازات الكبرى التي جعلت مصر رائدة في هذا المجال:

​الإطار التشريعي والحقوقي: تُوجت الجهود بإصدار القانون رقم 10 لسنة 2018 الذي يعد تشريعًا شاملاً يضمن الحقوق في التعليم، والصحة، والعمل، والإتاحة، والدمج المجتمعي. وقد سبقه إعلان عام 2018 عاماً للأشخاص ذوي الإعاقة، مما وضع التمكين على قمة الأجندة الوطنية.

​الدعم المؤسسي والاجتماعي: تم تأسيس صندوق الإعاقة لدعمهم ماديًا، وتوسيع مظلة برنامج الدعم النقدي "كرامة" ليشمل مئات الآلاف، بالإضافة إلى مبادرة "أسرتي قوتي" التي ترعاها قرينة رئيس الجمهورية لدعم الجانب الأسري.

​الدمج الأكاديمي والمهني: أطلق الرئيس السيسي مبادرة "تمكين" لدعم الطلاب ذوي الإعاقة في الجامعات، وتوفير التسهيلات الأكاديمية والتقنية لهم. كما شملت الإنجازات التوسع في إنشاء المراكز التأهيلية المتخصصة وتقديم الأجهزة التعويضية الحديثة مجاناً أو بتكلفة ميسرة، لضمان استعادة القدرة على الحركة والإنتاج.

​المشاركة في صناعة القرار: حظي الأشخاص ذوو الإعاقة بتمثيل تشريعي داخل مجلس النواب لأول مرة، ومشاركة فاعلة في مؤتمرات الشباب و"قادرون باختلاف"، مما يضمن وصول صوتهم إلى قمة السلطة التنفيذية والتشريعية.

​3. التطبيق الإقليمي المُتخصص: مبادرة "نحو مجتمع دامج" في سوهاج

​تُمثل مبادرة "نحو مجتمع دامج" في محافظة سوهاج نموذجًا رائدًا للتطبيق العملي والفعال للاستراتيجية الوطنية على مستوى الأقاليم، وتتم برعاية مباشرة من اللواء الدكتور عبد الفتاح سراج، محافظ سوهاج.

​لقد أكد المحافظ على أن رعاية المبادرة تأتي في إطار التزام المحافظة بتحقيق الدمج الشامل وتغيير النظرة المجتمعية، مشدداً على أن الهدف هو تحقيق الإتاحة الكاملة في كافة المرافق والخدمات. تتجاوز المبادرة مفهوم الإعانة لتركز على بناء ثقافة مجتمعية شاملة وتوفير فرص حقيقية، حيث نجحت في ترجمة الأهداف إلى إنجازات ملموسة شملت تسليم عقود عمل منتظمة في القطاع الخاص، ودعم مشاريع ريادة الأعمال، وتوزيع الأجهزة التعويضية والمساعدات الطبية، مما يعزز المشاركة الفاعلة في تنمية المحافظة.

​4. مقارنة حضارية: التمكين بين العصر الفرعوني والجمهورية الجديدة

​إن المقارنة بين العصرين تكشف عن تطور المفهوم من التكريم الفردي إلى التمكين المؤسسي الشامل.

​ففي مجال الإطار القانوني، نجد أن العصر الفرعوني كان يعتمد على الوصايا الأخلاقية غير المُلزمة بقانون موحد، بينما أسست الجمهورية الجديدة لتمكينهم عبر دستور 2014 وقانون رقم 10 لسنة 2018، الذي يضمن حقوقهم كمواطنين كاملي الأهلية.

​أما في مجال الرعاية الصحية، فبينما كان العصر الفرعوني يبرع في إبداعات فردية مُبكرة مثل القدم الخشبية، فإن العصر الحديث يوفر رعاية شاملة وبرامج علاج طبيعي وتخاطب وتأهيل على مستوى وطني ممول من الدولة (مثل برامج "حياة كريمة").

​وفي مجال الدمج السياسي والوظيفي، تحول الأمر من وصول فردي لشخصيات مثل الملك سيبتاح أو سنب، إلى تمثيل تشريعي داخل مجلس النواب لأول مرة، ومشاركة منتظمة في المؤتمرات الرئاسية، مما يضمن المشاركة في صناعة القرار. كما تطور الدمج الاقتصادي من توفير وظائف تقليدية (كالعزف أو الإشراف على الملابس)، إلى تفعيل نسبة الـ 5% في التوظيف، ودعم المشروعات الصغيرة، وإطلاق مبادرات التمكين الاقتصادي الميسر.

​5. المتحف المصري الكبير: الإتاحة المكانية والمعلوماتية والتكنولوجية

​في سياق الاحتفال بافتتاح المتحف، تكتمل حلقة الإتاحة، حيث تم تصميم المتحف ليكون نموذجاً عالمياً للسياحة الشاملة. ويضمن المتحف أعلى مستويات الإتاحة المكانية (Physical Accessibility) عبر المنحدرات والمصاعد المجهزة والكراسي المتحركة وخدمات النقل الداخلي الميسر.

​كما يتحقق الوصول المعرفي من خلال الإتاحة المعلوماتية عبر توفير مستنسخات أثرية يمكن لمسها مع شروحات بطريقة برايل للمكفوفين، وتوظيف لغة الإشارة في العروض التقديمية. أما الإتاحة التكنولوجية، فتتجلى في استخدام التطبيقات الرقمية والمساعدات الصوتية وخرائط الإرشاد التفاعلية لتقديم تجربة ثقافية شاملة، ليضمن أن قصة مصر العظيمة تُروى وتُفهم من قبل الجميع.

​إن مسيرة الأشخاص ذوي الإعاقة في مصر هي قصة حضارة متجددة؛ فما بدأ بعبقرية الأطباء في الفيوم وتكريم الملوك، يستمر اليوم بجهود الدولة المصرية وقوانينها الشاملة، وريادة الأقاليم كمحافظة سوهاج، وبدعم مباشر من الرئيس عبد الفتاح السيسي، ليؤكد للعالم أن التزام مصر ببناء مجتمع دامج هو ركيزة أساسية في صياغة المستقبل.

تابعنا على فيسبوك

. .
paykasa bozum