عبد الحي عطوان يكتب: الأم ومخدر الشابو

فجأة استيقظت الأم من نومها مذعورة، كادت أن تصرخ بأعلى صوتها، شعرت وكأن سكينًا انتاب أحشاءها، أو هناك شيئًا يضغط على أنفاسها لتختنق، فقد سرى بين وجدانها ذلك الانقباض.
حاولت أن تتنفس الصعداء، أن تتلو بعض الآيات، وقفت تلتفت يمينًا ويسارًا تتأمل جدران تلك الغرفة العتيقة، التي شهدت لحظة دخولها لذلك المنزل الكائن وسط المنطقة الشعبية منذ خمسين عامًا مضت.
بدأت تحادث نفسها، فسيل من الأفكار يطاردها: ما هذا الشعور الكئيب الذي انتابني فجأة؟ هل جنّ جنوني؟ وما هذه البرودة التي تجمعت لتسري في جسدي؟ ولماذا روحي مسحوبة مني هكذا؟! هل هي ساعتي الأخيرة؟ هل حان قدوم ملك الموت؟
طارت ناحية غرفة الأولاد، فتحت عليهم الباب، تراجعت قليلاً للوراء، لم تحتمل رائحة الغرفة، فهواؤها يزكم الأنف وكأنه قادم من بين قبور الموتى.
أضاءت نورها، انتابها الذهول، حادثت نفسها بصوت مسموع: ماذا جرى هنا؟ هل تعاركا بالأمس سويًّا؟ لم أسمع لهما ضجيجًا، فكل الأشياء مبعثرة ومقلوبة.
وقفت تنظر إليهما وهما يغطّان في نوم عميق. فقد أنجبتهما في السنوات الأولى للزواج، واليوم تجاوز كلٌّ منهما العشرين عامًا، لم يُكملا تعليمهما، واكتفيا بالمؤهل المتوسط، وعملا بمجال بيع الفاكهة بالمحل الكائن بأحد شوارع المنطقة الشعبية التي يقطنان بها.
ارتفع صوتها أكثر وأكثر، نادت عليهما، أمسكت بجلباب كلٍّ منهما، صرخت في وجهيهما، وبرغم صوتها المذعور وشجارها، لم يستيقظا. رفعت جسدها من انحناءته نحوهما، وتساءلت بينها وبين نفسها: ما الذي بدّل حياتهما هكذا؟ وما سر هذا السبات العميق؟ وما الذي جعل من هيئتهما وكأنهما متسولان؟ لماذا أصبحا يشبهان أولاد الشوارع في ملابسهما وشعر رؤوسهما المتسخة؟
اقتربت أكثر من سرير الصغير، حاولت إيقاظه بشتى الطرق، فلم يستجب، قلّبت بين ملابسه، فتّشت جيوبه، ما هذه اللفافة؟ وما سر رائحتها الغريبة؟ غاصت بين طيات جسده الملقى دون وعي على السرير، أمسكت بيديه، قلّبت جسده، ما هذه الآثار التي تبدو على جلده؟ وما سر هذه التقرحات التي طفت على رجليه وبعض أجزاء من جسمه؟ ولماذا أصبحا يعزفان عن الأكل والشراب؟
ألقت بنفسها على الكرسي الكائن أمام الباب، حيث ترقرقت عيناها بالدموع، بدأت تناجي ربها بصوت مسموع: ماذا أفعل وأين أذهب؟ فقد غادر الأب الحياة ورحل من سنين، وترك لي تركة مثقلة بالديون، ماذا أصابهم؟ هل يكون الإدمان قد أصابهم؟ هل تعودا على المخدرات؟ هل ضاع أبنائي؟ هل علاقتهم بالشارع أقوى مني؟
هَمَّت بالوقوف مسرعة، دخلت إلى غرفتهم مرة أخرى، نادت عليهم بصوت مرتفع، فاستيقظ الابن الأكبر حيث بدأ ينهرها، ويُزيح من غضبه اتجاهها، سألته وهي تنظر إليه بعينين تملؤهما الدموع: ماذا أصابكم؟ وما الذي حدث لكم؟ كنت أرى فيكم زهرة شبابي. قل لي الحقيقة بدون رياء.
وأمام دموعها وصراخها وسؤالها عن الإدمان، نطق مكذِّبًا، محاولًا أن يُهدئ من روعها وذعرها. طلبت منه أن يأخذ أخاه آخر النهار للمعمل الموجود أمام المزلقان المفتوح، لعمل تحليل مخدرات؛ وافقا على مضض، بعد شد وجذب وشجار، وأصواتهما التي وصلت للجيران.
مرت الساعات ثقيلة وكأنها تنتظر نهاية العمر، حاولت أن تهدئ من روعها، أن تُكذّب نفسها جاءت النتيجة صادمة؛ فقد أظهر التحليل إدمان الاثنين لمخدر الشابو. أخذت قرارها السريع بلا تردد، باعت ما تستطيع بيعه، ذهبت للبريد، سحبت ما وجدته في دفتر التوفير، حزمت حقائبها ورحلت بهما إلى أخيها الكائن بالقاهرة، لتُدخلهما مركزًا لعلاج الإدمان.
داخل القطار، غابت عن الوعي، أغمضت عينيها، أسندت رأسها على يديها بجانب الشباك، فالقطار غير القطار، والسفر غير السفر.
بدأت تتوارد إليها الخواطر والأفكار، أخذت تُحاسب نفسها، تُجلد ذاتها، تُؤنّب ضميرها، تُراجع يومياتها: هل قصّرت؟ هل أهملتهما؟ هل فات الأوان؟ كيف وصل إليهما ذلك الملعون؟ فلم يغادرا فرش الفاكهة أبدًا! هل كانا يبتاعانه من تلك الصبية الذين يُجندهم الكبار؟ مثلما اعترف أحمد ابن الجيران لوالده عندما اكتشفا إدمانه؟
أخذ القطار يتلو محطاته، وهي تائهة عن الوعي تمامًا، ما بين الحال، وضيق اليد، ونفقات العلاج.
وفي النهاية...
رغم كل الجهود المضنية التي تبذلها وزارة الداخلية ورجالها للقضاء على المخدرات وضبط مروّجيها، إلا أننا برسالة اليوم الحقيقية التي أرسلتها لنا الأم، ندق ناقوس الخطر نحو مخدر "الشابو" الذي غزا كل المناطق الشعبية والراقية، واقترب من كل الشباب لرخص ثمنه وسهولة الحصول عليه، ومعامل تصنيعه، وتوزيع الصبية له.