احمد عزيز الدين احمد يكتب : الهوية الثقافية المصرية في مفترق الطرق: نداء إلى الضمائر الحية

في زمن تتسارع فيه العولمة، وتتداخل فيه الثقافات حتى تكاد الخصوصية أن تُمحى، تصبح الهوية الثقافية لدى الشعوب بمثابة الحصن الأخير، والخيط النابض الذي يربط الإنسان بجذوره وتاريخه وحضارته. ليست الهوية الثقافية رفاهية فكرية، ولا مشروعًا مؤجَّل التنفيذ، بل هي ضرورة وجودية، وركيزة أساسية في بناء الوطن والمواطن. فالشعب الذي لا يعرف من هو، ومن أين جاء، وكيف تشكلت ملامحه الروحية والحضارية، لا يمكنه أن يعرف إلى أين يذهب.
إن الثقافة المصرية، المتنوعة بين الشمال والجنوب، بين الدلتا والصعيد، هي من أعرق الثقافات في العالم، ثقافة عاشت آلاف السنين وشهدت ميلاد حضارات، وسقوط إمبراطوريات، واحتفظت رغم كل ذلك بهويتها المتماسكة. وفي قلب هذه الثقافة، يقف الصعيد المصري، لا كرافد ثقافي فحسب، بل كجذع أصيل في شجرة الهوية الوطنية. لقد أنجبت أرض الجنوب فلاسفة، ومفكرين، وأدباء، وشعراء، ومبدعين، وشهداء، وصانعي وعي حملوا مشاعل النور وسط الظلام، وتصدّوا لمحاولات التجهيل والتهميش لعقود.
لكن، هل ما زال الصعيد يحظى بما يستحق من اهتمام ثقافي؟
الحقيقة المؤلمة أن مؤسسات الثقافة في صعيد مصر تعاني من الإهمال، بل ومن غياب الرؤية أحيانًا. المكتبات العامة تُغلق أبوابها أو تخلو رفوفها من الجديد. قصور الثقافة تتحول إلى مبانٍ خاوية، والأنشطة الثقافية تُقام في مناسبات محدودة، وبحضور رمزي لا يعكس حجم المبدعين الحقيقيين في هذه الأرض. في الوقت الذي تُبنى فيه المولات والمراكز التجارية العملاقة، لا نرى استثمارًا مماثلًا في بناء العقول، وتحصين الوعي، وتغذية الإبداع.
فهل يُعقل أن يُترك شباب الجنوب نهبًا للفراغ الثقافي، في عصر تفيض فيه الشاشات بكل ما يُضعف الهوية ويشوّه الوعي؟
إن الحفاظ على الهوية الثقافية لا يتم عبر خطب المناسبات، ولا عبر شعارات تُرفع دون فعل حقيقي. الحفاظ على الهوية يتطلب بناء مؤسسات ثقافية حقيقية، تُدار بكفاءات واعية، وتُموَّل بشكل كافٍ، وتخضع لمساءلة مجتمعية. يتطلب فتح المكتبات العامة في كل قرية ونجع، وتحويلها إلى منصات حوار وتعلم لا مجرد مخازن للكتب. يتطلب إنشاء مسارح ومراكز إبداع للأطفال والناشئة، لا أن يُترك الإبداع حكرًا على العاصمة.
إلى السادة المسؤولين عن الثقافة في مصر:
لا تنظروا إلى الثقافة بوصفها ترفًا يُؤجل أو عبئًا يُحمَّل على موازنة الدولة. بل انظروا إليها كما ينظر العقلاء إلى قلاع الدفاع الوطني، لأن ما تحميه الثقافة لا يقل أهمية عما تحميه الجيوش: إنها تحمي الوعي، والذاكرة، والكرامة، والإنسان. وإذا كان الصعيد قد طال صبره، فذلك لا يعني أن يُنسى أو يُهمّش. بل هو أحوج ما يكون اليوم إلى مشروع ثقافي متكامل، يُنقذ هويته من الذوبان، وينقذ أبناءه من أن يكونوا ضحية لثقافات دخيلة لا تمثّلهم.
نحن لا نطلب معجزة، بل نطالب بالعدالة. نطالب أن تُعامَل الثقافة في الصعيد كما تُعامَل في أي مكان آخر من أرض الكنانة. نطالب بأن يكون لكل طفل في نجع أو قرية كتابه، ولكل مبدع منبره، ولكل مثقف دوره.
ولتعلموا أن الهوية الثقافية إذا اندثرت، فلن تقوم لنا قائمة، لا اقتصاديًا، ولا اجتماعيًا، ولا سياسيًا. إن ما نبنيه من مدن دون أن نبني الإنسان، سيبقى هشًّا وعرضة للانهيار. فابنوا لنا المؤسسات الثقافية كما تبنون الطرق والكباري. وازرعوا في قلوب أبنائنا حب القراءة، وحب الفن، وحب الوطن.