شخصية وعلامه مع نور سلامه

في القرن السادس الهجري، وسط تصاعد الحملات الصليبية على بلاد المسلمين، بزغ نجم قائدٍ فذّ جمع بين العدل، والورع، والدهاء السياسي والعسكري. إنه الملك العادل نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي، ثاني حكام الدولة الزنكية، الذي لعب دورًا محوريًا في مقاومة الصليبيين وتوحيد الشام تحت راية واحدة.
نشأة مبكرة في كنف الجهاد
وُلد نور الدين زنكي عام 511 هـ (1118م) في الموصل، ونشأ في رعاية والده عماد الدين زنكي، مؤسس الدولة الزنكية، الذي غرس في نفسه روح الجهاد والمسؤولية. تلقى تربية صارمة على مبادئ الإسلام، وتعلم منذ صغره قيم العدل والإحسان، والتي أصبحت لاحقًا ركيزة في سياساته.
مسيرة حكم حافلة بالإنجازات
بعد اغتيال والده عام 541 هـ (1146م)، تولى نور الدين الحكم، واستطاع خلال فترة وجيزة أن يوحّد معظم بلاد الشام، بما في ذلك حلب ودمشق وحمص وحماة، مشكلًا بذلك جبهة إسلامية قوية في وجه الصليبيين.
اشتهر بحكمه العادل، فأنشأ دار العدل في دمشق، حيث كان يستمع بنفسه لمظالم الناس، وألغى الضرائب غير الشرعية التي أثقلت كاهل الرعية. كما عمل على نشر العلم، فأنشأ المدارس والمساجد، ومن أبرزها المدرسة النورية الكبرى في دمشق، إلى جانب بناء المستشفيات (المارستانات) ودور الحديث.
قائد زاهد ومصلح ديني
لم يكن نور الدين مجرد حاكم أو قائد عسكري، بل كان زاهدًا، متدينًا، ملتزمًا بتعاليم الشريعة الإسلامية. حارب البدع والخرافات، ونشر السنة، وقمع المذاهب المخالفة التي كانت تثير الفتنة في بعض المناطق.
علاقته بصلاح الدين الأيوبي
شكّل نور الدين زنكي الأساس لصعود القائد الشهير صلاح الدين الأيوبي. فقد وثق به، وأرسله مع عمه أسد الدين شيركوه إلى مصر لمواجهة الحملات الصليبية هناك. وبعد وفاة شيركوه، تولى صلاح الدين وزارة الدولة الفاطمية، قبل أن يستقل بها تدريجيًا، ما سبب توترًا بينه وبين نور الدين الذي كان يستعد للذهاب إلى مصر لإعادة الأمور إلى نصابها. لكن القدر لم يمهله، فتوفي عام 569 هـ (1174م) في دمشق بسبب مرض الخوانيق.
إرث خالد في الذاكرة الإسلامية
رحل نور الدين، وخلفه ابنه الصغير الملك الصالح إسماعيل، الذي لم يتمكن من الحفاظ على وحدة الدولة. ومع ذلك، فإن إرث نور الدين ظل حيًا، فقد مهد الطريق لصلاح الدين الأيوبي الذي استكمل مشروعه في توحيد الجبهة الإسلامية وتحرير القدس.
ويُعد نور الدين زنكي حتى اليوم أحد أبرز القادة المسلمين في التاريخ، بما اتصف به من عدل وتقوى وشجاعة. فقد ترك أثرًا لا يُمحى في ذاكرة الأمة، ليس فقط بمآثره العسكرية، بل بإصلاحاته الاجتماعية والعمرانية التي ما زال صداها يتردد حتى الآن