حوار مع الصحفية السورية رولا سالم: عن الصحافة كمسؤولية فكرية، والفلسفة كأداة لفهم الواقع

في زمن تزداد فيه سرعة النشر، وتخفت فيه جدوى السؤال، تخرج الصحفية السورية رولا سالم من الصمت المهني إلى الفعل التأملي، لتقدّم تجربتها ككاتبة لا تكتفي بنقل الخبر، بل تُفككه، وتعيد بناءه ضمن رؤى فكرية تنبع من خلفيتها الفلسفية، وتجربتها الصحفية المتعددة المنصات.
ابنة الفلسفة التي اشتبكت مع الواقع السوري لعقد من الزمن، تتحدث هنا بصوتٍ لا يخشى التناقض، ولا يهرب من المساءلة. في هذا الحوار، نرافق سالم في جولة فكرية تتجاوز محطات السيرة، لتمس جوهر الصحافة: علاقتها بالسلطة، وبالناس، وبالمستقبل.
من أسئلة الذكاء الاصطناعي، إلى مصير الإعلام في سوريا ما بعد الانهيار السياسي، ومن تجاربها في الصحافة المكتوبة والإذاعة، وصولًا إلى انتقالها للعمل في الإعلام المؤسسي، تفتح رولا دفاترها دون شعارات، لتقول ببساطة إن الصحافة ليست مهنة منتهية، بل مشروع إنساني مستمر... شرط أن نُبقي فيه مكانًا للشكّ، وللدهشة.
س1: أنتِ خريجة قسم الفلسفة بجامعة دمشق، وفي الوقت نفسه صحفية ذات حضور واسع في الصحافة الاقتصادية والاجتماعية. كيف أثّرت دراستك للفلسفة على مسارك الصحفي؟
دراسة الفلسفة منحتني ما أعتبره أعظم أدواتي كصحفية: الشكّ. الشكّ ليس بمعناه العدمي، بل بوصفه قدرة على النظر إلى الأشياء من زوايا متعددة، وعلى مقاومة السرديات الجاهزة. الفلسفة علّمتني أن كل ما يبدو بديهيًا يستحق أن يُسأل من جديد. حين أكتب مادة عن الاقتصاد، لا أتعامل مع الأرقام كمجرد معطيات، بل كأثرٍ لسياق سياسي، اجتماعي، وحتى أخلاقي. الصحفي، بنظري، يشبه الفيلسوف حين ينزل من برجه العاجي إلى الشارع – إلى الواقع، ليسجل ويفهم ويُفكك.
س2: عملتِ في عدد من المنصات الإعلامية السورية المعروفة، من الصحافة الاقتصادية إلى الإذاعة وحتى الإعلام المؤسسي. ما الذي تغيّر في الصحافة السورية خلال العقد الأخير؟
الصحافة في سوريا، مثلها مثل البلد كله، مرت بمرحلة خلخلة عميقة. لم تعد القوالب القديمة كافية، وبرز جيل جديد من الصحفيين يحاولون إيجاد لغتهم الخاصة، رغم محدودية المساحة وتحديات الواقع المهني. في المقابل، ظهرت منصات رقمية تحاول كسر الجمود وتقديم محتوى أكثر قربًا من الناس. لكن لا زالت الصحافة السورية تفتقد إلى الحرية الحقيقية، وإلى هامش مستقل يتيح للصحفي أن يكون شاهدًا لا مروّجًا. ومع هذا، ما زال هناك صحفيون يكتبون بحبر النية الصافية، وهؤلاء هم رأسمال المهنة الحقيقي.
س3: رُشحتِ عام 2014 لجائزة “أفضل زاوية رأي” عن مقالك “فلسفة مالتوس... النسخة السورية”، كيف تتعاملين مع الكتابة كوسيلة رأي؟ وهل ترين أن المقال الصحفي لا يزال مؤثرًا؟
كتابة الرأي مسؤولية هائلة، خاصة في زمن صارت فيه الحقيقة مائعة. أنا أكتب لا لأقنع، بل لأثير الأسئلة. المقال الصحفي الجيد لا يكتفي بإعلان موقف، بل يدفع القارئ ليشكك في موقفه هو. الترشيح للجائزة كان تكريمًا لمسار لا لمقال، لأنه يؤكد أن الصحافة ليست فقط مهنة بل مشروع فكري. وما زلت أعتقد أن المقال الصحفي، إذا كُتب بضمير وبنية فهم، يمكن أن يغيّر – لا بالضرورة السياسات، بل القارئ نفسه، وذاك تغيير لا يُقدّر بثمن.
س4: تعملين اليوم في الإعلام والعلاقات العامة بشركة سياحية. هل غادرتِ الصحافة تمامًا؟ وكيف ترين الانتقال من الإعلام النقدي إلى الإعلام المؤسسي؟
الانتقال لم يكن مغادرة بل امتداد. في الإعلام المؤسسي، أتعامل مع الصورة العامة للكيان، لكنني أظل أستخدم أدوات الصحفي: الإنصات، التحليل، واختيار اللغة. صحيح أنني لم أعد أكتب مقالات يومية، لكنني أكتب رسائل ومفاهيم وصوراً، بأسلوب يتطلب نفسًا عميقًا. العمل في السياحة يضعني في تماس مع ثقافات وأسواق وأفكار جديدة، ويمنحني فرصة لفهم كيف يمكن للإعلام أن يبني الثقة، لا فقط أن يقدّم الخبر.
س5: كإعلامية سورية، كيف تنظرين إلى تمثيل المرأة في الإعلام اليوم؟ وهل تعتقدين أن الصحفيات السوريات حصلن على المساحة التي يستحقنها؟
تمثيل المرأة في الإعلام لا يزال قاصرًا، ليس فقط عددًا بل نوعًا. ما يُطلب من الصحفية في كثير من الأحيان هو أن تكون واجهة ناعمة لا عقلًا ناقدًا. ومع ذلك، هناك نساء رائعات يكتبن، ينتجن، ويخضن معاركهن المهنية بشجاعة. لكن لا يمكننا الحديث عن تمكين حقيقي دون نظام مؤسساتي يحمي المرأة من الاستغلال، ويفتح أمامها أفقًا للقيادة لا مجرد التمثيل. نحن بحاجة إلى تغيير البنية، لا فقط واجهتها.
س6: لو طُلب منك اليوم أن تكتبي مقالًا أخيرًا بعنوان "الصحافة في زمن الفقد"، ماذا ستقولين فيه؟
سأقول إن الصحافة ليست مهنة الأجوبة، بل فنّ الأسئلة. وسأكتب عن الخسائر التي لا تُرى في نشرات الأخبار: فقدان الثقة، فقدان الحقيقة، وفقدان الدهشة. سأكتب أن الصحفي لا يجب أن يكون صوت النظام، ولا صوت المعارضة، بل صوت الإنسان – ذاك الذي يمشي في الطرقات ويسأل: لماذا يحدث هذا؟ ومتى سنتوقف عن التبرير ونبدأ في الفهم؟ الصحافة التي لا تفكر، ليست أكثر من ضجيج.
س7: كيف تغيّر واقع الصحافة في زمن الذكاء الاصطناعي؟ وكيف تبدو لك الصحافة في سوريا ما بعد سقوط النظام؟ وما صورة المستقبل التي تتوقعينها؟
هذا سؤال يضع الصحافة أمام امتحان ثلاثي: التقنية، التاريخ، والمستقبل. في زمن الذكاء الاصطناعي، لم تعد الصحافة فقط مرآة للواقع، بل أصبحت جزءًا من صناعته، أحيانًا على حساب الحقيقة. نحن أمام أدوات تكتب وتحرّر وتنتج المحتوى خلال ثوانٍ، وهذا أمر مذهل، لكنه في الوقت ذاته يُثير القلق: هل سنفقد البصمة البشرية في التحليل؟ هل سيُستبدل الحسّ الصحفي بالخوارزمية؟
ما يُخيفني ليس الذكاء الاصطناعي بذاته، بل غياب الإنسان خلفه. لأن الصحافة، في جوهرها، ليست نقلًا للبيانات، بل تأمّلٌ في دلالاتها، وقراءةٌ لما وراءها. حين نُوكِل هذه المهمة إلى الذكاء الاصطناعي، نخاطر بخسارة أهمّ ما في الصحافة: الضمير.
أما عن الصحافة في سوريا بعد سقوط النظام – إذا افترضنا أن ذلك حدث فعليًا أو رمزيًا – فإننا لن نجد صحافة حرة تلقائيًا. الانتقال السياسي لا يصنع بالضرورة فضاءً حرًا. بل على العكس، قد تكون لحظة ما بعد السقوط أكثر لحظات الإعلام هشاشة، لأنها ستكون لحظة تفكك المعايير، وانفجار السرديات، وتعدد الأجندات.
لكنها في المقابل ستكون فرصة. فرصة لتأسيس صحافة جديدة، ليست مرتهنة لأي سلطة، ولا تنتمي لأي أيديولوجيا، صحافة تُعيد تعريف علاقتها بالناس، لا بالسلطة، تُخاطب القارئ بوصفه شريكًا في الفهم، لا هدفًا للإقناع أو التضليل.
أحلم بمشهد إعلامي سوري يتخلّص من رهاب الدولة، ومن مركزية العاصمة، ومن الصوت الواحد.
مشهدٍ تُكتب فيه المادة من درعا كما من القامشلي، ويُحرَّر فيها الرأي من حلب كما من باريس، وتُقرأ الحقيقة لا على ضوء الولاء، بل على ضوء المصلحة العامة.
صورة المستقبل؟ أنا أؤمن بالمستقبل كمجال للمساءلة لا للتفاؤل المجاني. المستقبل الذي أراه ليس مثاليًا، لكنه على الأقل ممكن. مستقبل فيه صحفيون لا يُعتقلون بسبب مقال، ولا يُفصلون لأنهم طرحوا سؤالًا غير مريح. مستقبل تُدرّس فيه الصحافة كأداة لتحرير العقل، لا لتطويعه.
في النهاية، كل صحافة هي شكل من أشكال المقاومة. مقاومة للتعليب، للتهميش، للنسيان. وإذا كان الذكاء الاصطناعي قد حرّرنا من بعض المهام التقنية، فعلينا أن نحرر نحن الصحافة من آلتها الباردة، وأن نُبقيها فعلًا إنسانيًا حيًا.