فريد عبد الوارث يكتب: اختيارات الشورى: الأحزاب تتراجع .. و المشهد يتغير

مثل خروج أو ضعف تمثيل بعض الأحزاب السياسية من سباق مرشحي مجلس الشورى مؤشراً على أزمة عميقة و تحولات جذرية لا يمكن إنكارها او تجاوزها ففي السنوات الأخيرة، أصبح الغياب اللافت لمعظم الأحزاب السياسية عن سباق الترشح لمجلس الشورى موضع نقاش واسع في الأوساط السياسية و الإعلامية، فهذا الانسحاب الجماعي أو شبه الجماعي لا يمكن اعتباره مجرد قرار تكتيكي، بل هو انعكاس مباشر لأزمة هيكلية تعصف بالأحزاب، وتؤثر بعمق على مستقبلها، و على ديناميكية العمل السياسي الوطني بشكل عام.
سنحاول معرفة أسباب الغياب الحزبي عن مجلس الشورى و التي تدفع الأحزاب السياسية للابتعاد عن المشاركة الفاعلة في الانتخابات.. فما بين تراجع التأثير الجماهيري للأحزاب و الأزمات التنظيمية الداخلية و طغيان الطابع الفردي على الانتخابات مع ضعف الحوافز القانونية و السياسية، اختفت معظم الأحزاب عن المشاركة إلا بشكل رمزي !!
ثم نأتي لتأثير توسيع الدوائر الانتخابية على المشاركة الحزبية و هو أحد العوامل المهمة التي ساهمت في تراجع حضور الأحزاب في الانتخابات البرلمانية فقد أدى هذا التوسيع إلى رفع تكلفة الحملات الانتخابية، فكلما كبرت الدائرة، زادت المساحة الجغرافية و عدد الناخبين، ما يتطلب إنفاقًا ماليًا أكبر على الحملات و التنقل و الدعاية، و هو ما تعجز عنه معظم الأحزاب ذات الموارد المحدودة، كما أدى إلى تقليص فرص المرشحين الحزبيين في الدوائر الكبيرة، حيث يميل الناخب إلى اختيار الأسماء المعروفة عشائريًا أو اجتماعيًا أو إعلاميًا، على حساب المرشحين الحزبيين ذوي البرامج، فضلاً عن زيادة نفوذ العلاقات الشخصية و القبلية، فالدوائر الموسعة تعزز منطق "الزعامة المحلية"، وتُضعف منطق البرنامج السياسي الذي يفترض أن تدافع عنه الأحزاب، هذا التوسيع، وإن كان يُسوّق له أحيانًا كوسيلة لتعزيز التمثيل، أدى عمليًا إلى تهميش الأحزاب و إضعاف آليات التنافس البرامجي.
ستؤدي قلة عدد ممثلي الأحزاب في مجلس الشورى على الأحزاب نفسها إلى إحباط القواعد الحزبية، و تآكل ثقة القيادة بقدراتها، ناهيك عن تقليص فرص التأثير السياسي و إضعاف الأحزاب بشكل عام أما على المجتمع فإنه يؤدي لتراجع التعددية الفكرية، و هيمنة الأفراد بدل المؤسسات، و ضعف الرقابة و المساءلة، بالإضافة إلى انحدار الثقة في المؤسسات.
المال السياسي آفة العصر و قاتل الانتخابات البرلمانية
في غياب المنافسة الحزبية القوية، برز المال السياسي كلاعب أساسي و مؤثر خطير في نتائج الانتخابات، ما أدى إلى تشويه إرادة الناخب عبر شراء الأصوات أو التأثير في الناخبين بطرق غير أخلاقية، ما يُفرغ العملية الانتخابية من مضمونها الديمقراطي بالأساس، و تمكين أصحاب النفوذ المالي لا الكفاءة السياسية او الحزبية حتى وصل الأثرياء إلى المجالس بغض النظر عن برامجهم أو قدراتهم، بينما يُستبعد أصحاب الكفاءة الذين لا يملكون إمكانيات مالية!! فتحولت الانتخابات إلى استثمار خاص و وسيلة لاستعادة ما أنفقوه و ربما أكثر، مما يؤدي إلى الفساد و المحسوبية لاحقًا.
ولا ننسى إضعاف الأحزاب الفقيرة خاصة تلك التي تعتمد على التمويل الذاتي أو دعم محدود، تجد نفسها خارج المنافسة أمام مرشحين مدعومين من رجال أعمال أو شبكات مصالح، فالمال السياسي لا يُضعف فقط الأحزاب، بل يُقوّض أسس العدالة السياسية، و يخلق طبقة سياسية مفصولة عن الناس و احتياجاتهم الحقيقية.
و ختاماً، فإن مستقبل الأحزاب بين إعادة البناء و الانقراض ستحدده المرحلة المقبلة، فإما أن تعيد الأحزاب النظر في بنيتها التنظيمية، و تفتح قنوات حقيقية للتجديد الداخلي و تمكين الشباب، أو أن تستمر في الانكماش إلى أن تصبح مجرّد أسماء بلا أثر، و لتصحيح ذلك الوضع يجب إصدار إصلاحات قانونية جريئة تدعم المشاركة الحزبية، مع تشريعات صارمة للحد من المال السياسي و إعادة هيكلة نظام الدوائر الانتخابية بما يُعزز التمثيل الحزبي، حتى عودة الأحزاب إلى الشارع و اهتمامها بالقضايا اليومية للمواطن.
فغياب الأحزاب السياسية عن مجلس الشورى، و تراجع عدد ممثليها، ليسا مجرد نتائج عارضة، بل مظاهر عميقة لأزمة هيكلية في النظام السياسي، فتوسّع الدوائر الانتخابية، و هيمنة المال السياسي، و تقليص الدور البرامجي للأحزاب، كلها عوامل تؤسس لمشهد سياسي هش، تغيب عنه المؤسسات و تطغى عليه، إن لم يُعاد الاعتبار لدور الأحزاب، فسندفع جميعًا ثمن فراغ سياسي لا تملؤه إلا الفوضى أو الاحتكار.