تعامد الشمس على رمسيس الثاني في معبد أبو سمبل رمز الحضارة المصرية القديمة وعظمة الفراعنة
تستعد مصر فجر غد لمشهد فلكي فريد حين تتعامد أشعة الشمس على وجه الملك رمسيس الثاني داخل معبد أبو سمبل في لحظة تجمع بين العلم والفن والفلك والسياسة ويشهدها آلاف الزوار من المصريين والسياح مرتين كل عام لتكون الظاهرة واحدة من أهم الظواهر الفلكية في مصر وتظهر عبقرية الفراعنة في إدارة الدولة والحضارة منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام
تخترق أشعة الشمس الممر الصخري الممتد مئتي متر داخل المعبد لتضيء وجوه رمسيس الثاني واثنين من آلهة مصر القديمة رع حور آختي وآمون رع بينما يبقى تمثال الإله بتاح في الظل مشهد يرمز إلى القيادة والحكمة والسلطة المطلقة ويبرز المعرفة الفلكية والهندسية الدقيقة التي استخدمها الفراعنة لتصميم معابدهم ويؤكد أن المصريين القدماء لم يكونوا مجرد بناة للأهرامات والمعابد بل علماء فلك ومهندسين وفنانين سبقوا عصرهم بقرون
تستمر الظاهرة نحو خمس وعشرين دقيقة لكنها تختصر آلاف السنين من المعرفة وحول أسباب تعامد الشمس في هذين اليومين توجد روايتان الأولى تقول إن التصميم الفلكي للمعبد جاء لتحديد بداية الموسم الزراعي وخصوبة الأرض والثانية تشير إلى أن التاريخين يتوافقان مع يوم ميلاد رمسيس الثاني ويوم تتويجه على العرش وهو ما يبرز العلاقة بين السلطة والسياسة والزراعة والفلك في الحضارة المصرية القديمة
معبد أبو سمبل الكبير والصغير ليس مجرد صرح حجري بل رسالة حضارية خالدة عن عبقرية المصري القديم شيد المعبد الملك رمسيس الثاني في القرن الثالث عشر قبل الميلاد خلال حكم الأسرة التاسعة عشرة ليخلد انتصاراته في معركة قادش ويظهر قوته وتأليه ذاته كما شيد المعبد الأصغر لزوجته نفرتاري تكريما لها وللإلهة حتحور ربة الجمال والحب والموسيقى وهو مثال على تقدير المرأة في الحضارة المصرية القديمة
واجهة المعبد الكبير تضم أربعة تماثيل عملاقة للملك رمسيس الثاني يبلغ ارتفاع الواحد منها اثنين وعشرين مترا منحوتة مباشرة في الصخر تبتسم بثقة كأنها تحرس النيل إلى الأبد أما داخل المعبد فتمتد القاعات المزينة بالنقوش التي تحكي بطولات الملك في المعارك وتؤكد مستوى فن النحت والتخطيط الهندسي الذي بلغ أوجه في العصر الذهبي للفراعنة
وإلى الشمال من المعبد الكبير يقع معبد نفرتاري المنحوت في الصخر ذاته حيث تتساوى تماثيل الملكة تقريبا مع تماثيل الملك مشهد نادر يعكس مكانة المرأة في الحضارة المصرية القديمة وقيمتها إلى جوار الملك في الحياة والخلود
قصة معبد أبو سمبل لم تتوقف عند بنائه بل استمرت في التاريخ الحديث ففي ستينيات القرن الماضي ومع بناء السد العالي كان المعبد مهددا بالغرق تحت مياه بحيرة ناصر وأطلقت منظمة اليونسكو عام ألف وتسعمئة وتسعة وخمسين نداء دوليا لإنقاذ آثار النوبة واستجابت مصر سريعا لتبدأ ملحمة علمية وإنسانية غير مسبوقة
في عام ألف وتسعمئة وأربعة وستين اجتمع فريق دولي من علماء الآثار والمهندسين والفنيين من أكثر من خمسين دولة ليبدأ مشروع نقل المعبدين الكبير والصغير إلى موقعهما الجديد على ارتفاع خمسة وستين مترا فوق مستوى البحيرة وعلى بعد مئتي متر من موقعيهما الأصليين تم تقطيع المعبدين إلى نحو ألف كتلة ضخمة يصل وزن الواحدة منها إلى ثلاثين طنا باستخدام أحدث تقنيات القطع والنقل ثم أعيد تركيبها بدقة مذهلة لتطابق الوضع الأصلي من حيث الزوايا واتجاهات الشمس واستغرقت عملية النقل ست سنوات لتصبح إحدى أعظم معجزات الهندسة الأثرية في القرن العشرين وتؤكد قدرة مصر على حماية إرثها الحضاري
وخلال تلك الملحمة وثق مركز تسجيل الآثار المصرية كل نقوش المعبدين بالتصوير والرسم والرفع المعماري لتبقى السجلات محفوظة كوثيقة خالدة للجهود التي أنقذت جزءا من روح مصر القديمة من الغرق الأبدي منذ أن رصدت الكاتبة البريطانية إميليا إدواردز ظاهرة تعامد الشمس على وجه تمثال رمسيس الثاني لأول مرة عام ألف وثمانمئة وأربعة وسبعين ودوّنتها في كتابها ألف ميل فوق النيل وأصبحت الحدث الفلكي العالمي الذي يتابعه العلماء والسياح على حد سواء قبل عملية النقل كانت الظاهرة تحدث في واحد وعشرين أكتوبر وواحد وعشرين فبراير لكنها تغيّرت يوما واحدا بعد إعادة تركيب المعبد لتصبح في اثنين وعشرين أكتوبر واثنين وعشرين فبراير ما يعكس دقة مذهلة في الحسابات الفلكية والهندسية للفراعنة
اليوم يقف معبد أبو سمبل شامخا على ضفاف بحيرة ناصر مدرجا ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو تحت مسمى آثار النوبة الممتدة من أبو سمبل حتى جزيرة فيلة ويظل المعبدان الكبير والصغير رمزين للحب والعبقرية والإرادة حب رمسيس لنفرتاري وعبقرية المصري في العمارة والفلك وإرادة أمة أنقذت تراثها من الغرق ومع كل شروق شمس يتعامد على وجه رمسيس تتجدد رسالة الحضارة المصرية للعالم أن الشمس قد تغيب عن الأفق لكنها لا تغيب أبدا عن مصر لأنها أرض الخلود والنور الأول وتجذب آلاف الزوار من المصريين والسياح والعلماء وتؤكد أن مصر ليست مجرد تاريخ بل أمة حية مزجت بين الفلك والسياسة والهندسة والفن والحضارة منذ آلاف السنين

















