18:10 | 23 يوليو 2019

من الورق إلى الواقع.. كيف تُولد الشركة في القانون وتموت بالإهمال؟

10:53am 23/10/25
صورة أرشيفية
عمر ماهر

في عالم المال والأعمال، لا تبدأ الشركة من لحظة تسجيلها في الهيئة العامة للاستثمار كما يظن الكثيرون، بل تبدأ قبل ذلك بكثير، من لحظة الجلوس الأولى بين الشركاء، حين يقول أحدهم بحماس: «إحنا نعمل مشروع». عندها تُولد الفكرة، ويبدأ الحلم في التحول إلى خطة، ثم إلى عقد، ثم إلى كيان قانوني له اسم وعنوان وذمة مالية. لكن بين الميلاد والنهاية مسافة طويلة مليئة بالقرارات الصحيحة والأخطاء القاتلة، فالشركة لا تموت فجأة، بل تُستهلك بالإهمال خطوة بعد خطوة، حتى تختفي في صمت دون أن تُعلن وفاتها رسميًا.
الخطأ الأول الذي يقع فيه أغلب المؤسسين أنهم يرون التأسيس مجرد ورق، بينما هو في الحقيقة “عقد حياة” يربط أشخاصًا بمصير مشترك. الأوراق القانونية ليست مجرد نموذج جاهز يُملأ في مكتب خدمات، بل هي وثيقة تُحدد من يملك القرار، ومن يتحمل الخسارة، ومن يملك الحق في التوسع أو الانسحاب. القانون المصري وضع إجراءات دقيقة لتأسيس الشركة، ليس لعرقلة الناس، بل لحمايتهم من أنفسهم. فكل بند في النظام الأساسي وُضع لأنه في يوم من الأيام كانت هناك شركة انهارت بسببه. ولكن للأسف، كثير من الشركاء يفضلون القوالب الجاهزة لأنها أرخص أو أسرع، فيوقعون دون قراءة، وكأنهم يكتبون شهادة ميلاد لابن لا يعرفون صفاته. ثم، بعد سنوات، حين تبدأ الخلافات، يعودون يبحثون عن تفسير لبنود لم يفهموها أصلاً، وكأنهم يقرأون وصيتهم بأثر رجعي.
ولأن الشركة كائن قانوني حي، فهي تمر بمراحل شبيهة بحياة الإنسان. تُولد بالتأسيس، تنمو بالإدارة الجيدة، تتعب بالإهمال، وتموت بالتصفية. وكل مرحلة منها تحمل تحديات قانونية دقيقة. في البداية، يبدو كل شيء سهلًا، الجميع متحمس، الأرباح تُوزع بروح الود، والقرارات تُتخذ بالإجماع. لكن بعد أول أزمة مالية، تظهر أول علامات الشيخوخة: شريك لا يريد أن يُسدد التزاماته، مدير يُخفي تفاصيل الإيرادات، أو نزاع على بند في العقد لم يُراجع جيدًا. عندها يبدأ الانقسام، وتتحول الاجتماعات إلى مناقشات حادة، ثم إلى خصومات، ثم إلى قضايا. والسبب غالبًا واحد: الإهمال في المراحل الأولى.
القانون المصري لا يُقصّر في تنظيم حياة الشركات، لكن المشكلة أن أغلب المستثمرين لا يتعاملون مع القانون إلا بعد وقوع الأزمة. الحقيقة أن أغلب الشركات لا تموت بسبب النصوص، بل بسبب التجاهل. الشركة تحتاج متابعة قانونية دورية، مثل الجسد الذي يحتاج فحصًا طبيًا منتظمًا. فمنذ تأسيسها، يجب أن تُراجع الجمعية العامة محاضر الاجتماعات، وتجدد السجل التجاري، وتُقدم ميزانية سنوية معتمدة، وتُحافظ على ملفاتها في مكان رسمي. لكن ما يحدث في الواقع أن كل هذه الخطوات تُهمل بحجة «مافيش وقت»، أو «كله تمام»، أو «إحنا مش كبار قوي»، حتى تتراكم المخالفات وتبدأ الغرامات، ثم يكتشف الجميع أن الشركة فقدت شرعيتها القانونية دون أن يشعر أحد.
أما الإهمال الأخطر، فهو الإهمال في الإدارة. فالإدارة ليست قرارًا فرديًا، بل منظومة من الرقابة والتوثيق والشفافية. المدير في القانون لا يُحاسب على نواياه، بل على أفعاله. ولذلك من المهم جدًا وجود لوائح داخلية واضحة تُحدد صلاحيات كل شخص داخل الشركة، خاصة إذا كان هناك أكثر من شريك. وغياب تلك اللوائح يجعل الإدارة عشوائية، ويُحول الخلافات الصغيرة إلى كوارث مالية. كم من شركة خسرت نصف رأسمالها لأن المدير لم يُسجل قراراته رسميًا، أو لأنه اتخذ قرار شراء أو بيع دون موافقة باقي الشركاء، فدخلت الشركة في نزاعات لم يكن لها داعٍ.
الحقيقة المؤلمة أن كثيرًا من الشركات المصرية تموت موتًا طبيعيًا بسبب “الملل الإداري”. فمع مرور الوقت، ينسى الشركاء عقدهم الأساسي، وينشغلون بالعمل الميداني فقط، ويظنون أن القانون شأن ثانوي. بينما الواقع أن الشركة بدون التزام قانوني مستمر، تفقد هيبتها أمام الجهات الرسمية، والمصارف، وحتى أمام عملائها. في عالم الشركات، الورق هو الذي يمنحك الوجود، والالتزام هو الذي يحافظ عليه.
وهنا تأتي الاستشارة المجانية التي أوجهها لكل من يفكر في تأسيس شركة أو يدير واحدة حاليًا:
اقرأ عقد تأسيس شركتك بوعي، ولا تعتمد على القوالب الجاهزة. اطلب من محامٍ مختص أن يشرح لك كل بند بلغة الحياة، لا بلغة القانون.
حدّد شكل شركتك القانوني بدقة. لا تنخدع بالمسميات، فالشركة ذات المسؤولية المحدودة تختلف جذريًا عن التضامن أو المساهمة.
اعقد اجتماعات رسمية موثقة. حتى لو أنتم إخوات أو أصدقاء، وجود محاضر معتمدة يحميكم من سوء الفهم لاحقًا.
ضع نظامًا داخليًا للإدارة والرقابة. لا تترك الأمور للمزاج أو الثقة فقط. كل قرار يجب أن يُكتب ويُحفظ.
راجع موقفك القانوني كل عام. استعن بمستشار قانوني يراجع ملفات الشركة، كما يراجع الطبيب حالتك الصحية.
عند التفكير في إنهاء النشاط، لا تتجاهل التصفية الرسمية. لأن ترك الشركة “معلقة” يعرض الشركاء لمسؤولية قانونية لا تنتهي حتى بعد توقف النشاط.
ولأنني أتحدث هنا بلسان المحامي والصحفي معًا، فاسمح لي أن أقول إن أكبر خطأ يرتكبه رواد الأعمال هو الخوف من القانون. كثيرون يظنون أن القانون “معقّد” أو أنه “هيوقف الشغل”، بينما العكس هو الصحيح. القانون ليس عدوًا، بل درعك الواقية. هو الذي يحفظ لك حقك عندما يختفي الود، وهو الذي يعطيك القوة عندما تتغير الظروف. الشركة التي تحترم القانون من البداية، لا تخاف منه عند النهاية.
أما عن موت الشركات بالإهمال، فالحقيقة أنه لا يكون موتًا مفاجئًا، بل أشبه بالشيخوخة التي تبدأ بتعب بسيط، ثم تتفاقم. الإهمال في متابعة البنود، أو في تسديد الالتزامات، أو في توثيق القرارات، كلها أعراض أولية للانهيار. والشركات التي تفهم هذا مبكرًا وتتعامل معه بعقلية الوقاية، هي التي تعيش وتكبر. أما من ينتظر حتى تصل الأمور إلى القضاء، فهو كمن يذهب للطبيب بعد أن فات وقت العلاج.
إن الشركة ليست ورقة في درج، بل كيان له حياة، يتنفس بالالتزام ويمرض بالإهمال. فكما يولد الإنسان بشهادة ميلاد، يجب أن تعيش الشركة بشهادة متابعة قانونية مستمرة. القانون لا يمنحها الحياة، لكنه يمنحها الحق في أن تعيش بأمان. وإذا كان التأسيس هو ميلاد الشركة، فالمتابعة القانونية هي نبضها المستمر.
ولذلك، فإن كل صاحب مشروع في مصر يجب أن يسأل نفسه بصدق: هل شركتي ما زالت حية قانونيًا؟ هل ملفاتها سليمة؟ هل قراراتها موثقة؟ إذا كانت الإجابة لا، فالأوان لم يفت. يمكنك أن تبدأ من اليوم في تصحيح المسار، لأن الشركة لا تموت إلا حين يتوقف أصحابها عن الاهتمام بها. والنجاح الحقيقي ليس في تأسيس الشركة، بل في استمرارها.
 

تابعنا على فيسبوك

. .
paykasa bozum