18:10 | 23 يوليو 2019

التوحد هل هو نعمةٌ من المجتمع أم انعكاسٌ له؟

3:45pm 20/10/25
صورة أرشيفية
نورهان هانئ

في عالمٍ يزداد ضجيجًا وتعقيدًا يومًا بعد يوم، تبرز حالات التوحد كمرآةٍ لعمق النفس الإنسانية، وكأنها تسألنا: من الذي صنع الآخر؟ هل المجتمع هو من يصيب الإنسان بالتوحد بعزلته وقسوته؟ أم أن التوحد في ذاته هو حالةٌ من النقاء والهدوء والانعزال الواعي عن عالمٍ فقد اتزانه؟
وهل الشخص المصاب بالتوحد في نعمة لأنه غير مدرك لكثير من صراعات الحياة ومآسيها؟ أم في نقمة لأنه لا يتعايش معها كما يفعل الآخرون؟ من الفائز في النهاية؟ أهو من يعيش داخل المجتمع ويتألم من واقعه، أم من يعيش في عالمه الخاص، بعيدًا عن ضوضاء البشر؟
الحقيقة أن التوحد ليس مرضًا بالمعنى التقليدي، بل هو حالة إنسانية خاصة تحمل بين طياتها الكثير من الغموض والعمق. بعض من يعيشون بالتوحد قد يجدون في عالمهم الصامت سلامًا لا نجده نحن في ازدحامنا، وبعضهم يبدع ويبتكر في مجالات لم يطرقها أحد من قبل، كأنهم يرون الحياة من زاوية أخرى، نقية وغير ملوّثة بضوضاء المجتمع.
من هؤلاء من أثبت للعالم أن الاختلاف ليس عيبًا، بل هو بوابة عبقرية. فالملياردير العالمي إيلون ماسك أعلن أنه مصاب بمتلازمة أسبرجر، وهي إحدى صور التوحد، ومع ذلك قاد ثورة تكنولوجية غيّرت وجه العالم. والمغنية الاسكتلندية سوزان بويل، التي أبهرت الملايين بصوتها، اكتشفت إصابتها بالتوحد بعد سنوات طويلة وقالت إنها أخيرًا فهمت نفسها ووجدت سلامها الداخلي. والممثل القدير أنتوني هوبكنز، أحد أعظم ممثلي السينما، صرّح بأن التوحد ساعده على التركيز الشديد وعلى بناء الشخصيات بعمق مختلف.
كما أن الفنان الأمريكي جوناثان ليرمان، الذي شُخِّص بالتوحد منذ طفولته، تحوّل إلى فنان عالمي يرسم وجوه البشر بملامح تنبض بالمشاعر التي قد لا يستطيع التعبير عنها بالكلمات.
كل هؤلاء وغيرهم كثيرون أثبتوا أن التوحد ليس نقمة، بل قد يكون هدية خفية من الله، تفتح لصاحبها أبواب الإبداع والتأمل والتميز.
فالشخص المصاب بالتوحد يعيش في عالم خاص، عالم مليء بالأفكار والخيالات، وقد يكون أكثر صدقًا مع نفسه، وأكثر قدرة على الإبداع لأن ذهنه غير مشغول بصغائر الأمور التي تستهلكنا نحن.
إنه يعيش في عزلة ظاهرية، لكنها ليست بالضرورة عزلة مؤلمة؛ فقد تكون راحةً داخلية من ضجيجٍ خارجي لا يحتمل.
وفي المقابل، كم من الأشخاص الذين يُوصفون بـ“الطبيعيين” يعيشون وسط المجتمع لكنهم منهزمون داخليًا، تائهون في صخب الحياة، يبتسمون ظاهريًا بينما قلوبهم منهكة؟
من هنا يحق لنا أن نسأل: من الفائز؟ من يعيش داخل المجتمع ويتألم من قسوته، أم من يعيش بعيدًا عنه في هدوء عالمه؟ ربما الفائز الحقيقي هو من وجد نفسه أينما كانت، سواء في الداخل أو في الخارج.
إن المجتمع الذي يحتضن الاختلاف ويفهمه هو المجتمع الذي يفوز حقًا، لأنه حين يفتح أبوابه لأصحاب التوحد، فإنه لا يمنحهم الحياة فحسب، بل يمنح نفسه فرصة لاكتشاف عبقريات جديدة، وفنون مختلفة، ورؤى لم يكن ليراها لولاهم.
فكم من عبقري عاش بيننا ولم نفهمه إلا بعد أن غاب، وكم من مبدع وُلد في عزلة التوحد لكنه أضاء عقول العالم بإبداعه.
التوحد إذًا ليس عيبًا ولا مرضًا، بل حالة من الصفاء والاختلاف الجميل. هو طريق مختلف للنظر إلى العالم، ونافذة على عالمٍ أعمق وأصدق. وربما، في نهاية المطاف، يكون الشخص المصاب بالتوحد هو الأوفر حظًا، لأنه يعيش عالمه بصفاءٍ لا يعرفه كثيرون.
فالمجتمع لم يخسر بوجود مصابي التوحد، بل فاز بوجودهم بيننا... فاز بعقول تفكر بطريقة أخرى، وقلوب ترى ما لا نراه، وأرواحٍ تعيش في صمتٍ لكنها تترك أثرًا لا يُمحى.

تابعنا على فيسبوك

. .
paykasa bozum