حين تتجسّد الأعمال: من رموز الدنيا إلى حقائق الآخرة

الأعمال لا تموت. هى أنفاس تنفخ فى غيب لا نراه فتسرى فيه كما تسرى الدماء فى العروق. قد تظن أنك تركتها خلفك لكنها فى الحقيقة تمشى أمامك تكبر بصمت حتى يأتى يوم تتجسّد فيه وجهاً لوجه.
صدقةٌ خرجت من يدك، فإذا بها غصن أخضر يظلل طريقك. كلمة حق قلتها فإذا بها نور يضيء قبرك. ظلمٌ ارتكبته فإذا به وحش يطاردك بين جدران البرزخ. غفلة أصررت عليها فإذا بها دخان يخنق صدرك. كل عمل هو بذرة، والبرزخ والأبدية هما الأرض التي تُزرع فيها. يومها لن ترى الأفكار كأفكار، بل ستقف أمامك كأشخاص وأمكنة وألوان.
حتى الموت نفسه سيتجسّد. لم يكن عدمًا ولا فراغا بل معنى ينتظر صورته. فإذا بالخلائق يشهدونه كبشًا يُنحر، فيرتفع الحجاب ويبدأ عهد الخلود. وهكذا كل شيء: المعاني تلبس أثوابًا فى الدنيا لتبقى مفهومة ثم تكشف عن وجوهها الحقيقية حين تعود إلى موطنها.
الدنيا إذن ليست سوى مسرح من الرموز. نحن نمشي بين معانى متنكرة نتصورها أشياء وهى فى جوهرها أرواح تنتظر ساعة الانكشاف. وحين تأتى الآخرة تنقلب المعادلة: يصير ما كنا نعدّه معانى محضة أجسادًا ماثلة ويغدو ما كنا نحسبه أجسادًا مجردَ رموزٍ وأصداء.
هى إشارات لمن أراد أن يفهم: أن العمل لا يفنى بل يتجسّد وأن المعنى لا يغيب، بل ينتظر أن يكشف عن وجهه.