حين يصمت القلب بعد الضجيج
هناك صمت لا يشبه السكون بل يشبه الموت البطيء لكل ما كان يوما حيا فينا
حين يصمت القلب بعد الضجيج لا يعود هناك جدوى للكلمات
تتراجع الحروف خائفة كأنها تهاب أن تلامس جرحا لم يندمل
يصير الكلام ترفا لا طاقة لنا به بعد أن استنزفنا كل صرخاتنا في محاولات عقيمة لإصلاح ما لا يصلح
حين يصمت القلب لا يعني أنه لم يعد يشعر بل أنه شعر أكثر مما يحتمل
يا لهذا الصمت الذي يأتي بعد عاصفة من المشاعر بعد حروب خاسرة مع الأمل
صمت ثقيل كأنه اعتراف بالهزيمة لكنه في الحقيقة نوع من النجاة
نجاة من الغرق في التفاصيل التي أنهكتنا ومن الأسئلة التي لم نجد لها يوما جوابا
هو صمت من ذاق الخذلان حتى آخر قطرة فلم يعد يرى جدوى في الشكوى
كنا يوما نضج بالحياة نحلم نحب نركض نحو الغد وكأنه وعد لا يخلف
لكن شيئا ما كسر فينا على مهل كأن الزمن قرر أن ينتزع الحماسة من أرواحنا قطعة قطعة
ثم جاء هذا الصمت لا كضيف مؤقت بل كإقامة دائمة في القلب
كأننا اعتدنا الغياب حتى صرنا لا نرتبك أمامه ولا نغضب من التلاشي ولا نندهش من الخذلان
حين يصمت القلب بعد الضجيج تتغير نظرتنا لكل شيء
تصبح الضحكة أخف والعتاب أندر والكلام أقل
نكتفي بالمشاهدة عن بعد لا لأننا لا نهتم بل لأننا تعبنا من المبالغة في الشعور
تعبنا من أن نحب أكثر ونعطي أكثر وننتظر أكثر
صرنا نحمل أرواحنا كشيء هش نخاف أن نضعه في يد أحد فيكسره من غير قصد
نصير أكثر هدوءا لكن بداخلنا بحر من المواجع
نبدو متماسكين بينما كل شيء فينا ينهار بصمت
لا أحد يسمع صراخ القلب حين يتوقف عن الكلام ولا أحد يدرك أن الهدوء أحيانا يكون شكلا من أشكال الانكسار
إنه هدوء الذين جربوا كل شيء ولم يجدوا في النهاية إلا الصمت مأوى لهم
وحين نحاول أن نكتب لا نجد الكلمات كأنها هجرتنا هي الأخرى
ننظر إلى الورق فنخاف أن نعيد فتح الجرح
نكتب جملة ثم نمسحها نكتب دمعة ثم نخفيها
فقد صرنا نعرف أن الكتابة لا تشفي بل تذكرنا أكثر بما أردنا نسيانه
حين يصمت القلب بعد الضجيج لا نكره أحدا ولا نحب كما كنا
نسامح دون تبرير ونرحل دون وداع
نترك الأماكن التي خانتنا والأشخاص الذين لم يفهمونا والمشاعر التي انتهت قبل أوانها
نختار البعد لا لأننا نملك القوة بل لأننا لم نعد نملك الرغبة في المحاولة
هو صمت النضج الموجع حين ندرك أن ليس كل من أحببناه يستحق البقاء وليس كل الوعود تنفذ وليس كل الأحلام تكمل الطريق
صمت من فهم الحياة كما هي ناقصة ومتعبة وجميلة رغم كل شيء
فنتعلم أن نعيش بحذر أن نبتسم رغم الفراغ وأن نخبئ وجعنا تحت عباءة الرضا
وحين ينظر إلينا الناس يظنون أننا بخير لكنهم لا يرون الرماد الذي يملأ القلب بعد أن انطفأت كل النيران
نبدو هادئين بينما في أعماقنا أصوات كثيرة خمدت لا لأنها وجدت جوابا بل لأنها تعبت من السؤال
حين يصمت القلب بعد الضجيج نعلم أن الوجع قد بلغ نهايته
وأن ما بعد هذا الصمت ليس إلا قبولا هادئا بأن الحياة تمضي حتى لو تركتنا في منتصف الطريق
فنبتسم بصعوبة ونمضي بخطى متعبة ونقول لأنفسنا في النهاية
لقد فعلنا ما بوسعنا والبقية تترك للقدر



















